الغد
سوف يلاحظ المنخرط في مراقبة جدالات الفكر السياسي في الولايات المتحدة حضورًا كثيفًا للربط بين الولايات المتحدة والفاشية: هل تنحدر أميركا نحو الفاشية؟ عبرت عتبة الفاشية؛ أم أنها لا يمكن أن تصبح فاشية على الإطلاق؟ تجدر أولًا ملاحظة أن طرح القضية في حد ذاته، بكثافة في الحقيقة، يؤشر على جدية الأسباب التي دعت إلى إثارتها من الأساس. ولا بدّ أيضًا من ملاحظة جسم الأدلة الصلبة التي تراكمت لتدعم الادعاء بأن الولايات المتحدة تعرض حقًا سمات الفاشية – ليس في شكلها الكلاسيكي، وإنما في صيغة محدثة تتقاطع مع البنية الرأسمالية النيوليبرالية والمؤسسات الديمقراطية الشكلية. ثمة الشيوع المطرد للخطاب السلطوي، وتآكل المعايير الديمقراطية، وتعاظم جرأة القوى اليمينية المتطرفة داخل جهاز الدولة وخارجه.
الفاشية، كما يعرّفها المؤرخ روبرت باكستون في كتابه «تشريح الفاشية» The Anatomy of Fascism، هي شكل من أشكال السلوك السياسي يتميّز بـ»الانشغال المهووس بانحدار المجتمع، او بالإذلال، وموقف الضحية، وبعقائد عبادية تعويضية للوحدة، والطاقة، والنقاء». وغالبًا ما تنطوي على وجود حزب جماهيري مؤلف من قوميين متشددين ملتزمين، يعملون في تعاون مضطرب مع النخب التقليدية، ويتخلّون عن الحريات الديمقراطية بذريعة بعث الأمة من جديد. وفي مقاله المعروف «الفاشية الأصلية» Ur-Fascism، كتب المفكر الإيطالي الشهير، أومبرتو إيكو، أن جوهر الفاشية لا يكمن في برنامج ثابت، وإنما في «كوكبة من العناصر» -تشمل عبادة التقاليد، ورفض الحداثة، والخوف من الاختلاف، واستمالة طبقة وسطى محبطة، والهوس بالمؤامرات، والاعتقاد بأن الخلاف خيانة.
لدى النظر إلى المناخ السياسي السائد في الولايات المتحدة اليوم، يصعب تفويت كم من هذه السمات يحضر في الحياة العامة الراهنة. أصبحت شيطنة المهاجرين والأقليات -خاصة المهاجرين من أميركا اللاتينية والمسلمين- روتينًا مألوفًا. والشعارات القومية مثل «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، و»أميركا أولًا» تنسج على منوال أسطورة عن عظمة مفقودة تستدعي استعادة بالعنف. والمؤسسات التي كانت سابقًا محايدة، يجري الآن تجويفها أو تسييسها، ويتم الزج بالمحاكم، وأجهزة إنفاذ القانون، بل وحتى الجيش نفسه، في المعارك الحزبية باطراد. وفوق كل ذلك، أصبح الولاء لشخص واحد بدلاً من مجموعة من المبادئ أو القوانين، مركزيًا بالنسبة لشرائح واسعة من المواطنين.
ثمة عدد من سمات الفاشية ظهرت في رئاسة دونالد ترامب والحركة السياسية المحيطة به بشكل خاص. وبينما يرى البعض ضرورة للتمييز بين النزعات الفاشية وبين الدولة الفاشية المكتملة، فإن التحول في الخطاب والاستراتيجيات منذ العام 2016 دفع كثيرين إلى إطلاق تحذيرات قوية. ومنهم تيموثي سنايدر، أستاذ التاريخ بجامعة ييل، الذي كتب أن «ما بعد الحقيقة هو ما قبل الفاشية»، مشيرًا إلى التآكل المتعمد للحدّ الفاصل بين الواقع والدعاية. كانت فكرة أن الحقيقة ليست سوى ما يخدم السلطة دائمًا أداة كلاسيكية في تركيبات الحكم الاستبدادي السلطوي. كما حذّر سنايدر أيضًا من «الطاعة مُسبقًا»، التي تجعل المواطنين متواطئين بتخليهم التدريجي عن هبات الحكم الأخلاقي والتمييز العقلي، بالطريقة التي تكشف عنها الاتجاهات الاجتماعية الأميركية.
كانت أعمال التمرد في الكابيتول في 6 كانون الثاني (يناير) 2021 لحظة فارقة في تعريف واقع المجتمع الأميركي. كشف ذلك الهجوم -الذي حرّض عليه الرئيس الحالي آنذاك، ودعمته شرائح من القاعدة الجمهورية، وتبعه إنكار واسع النطاق أو تبرير- عن هشاشة الديمقراطية الأميركية. وتصعب رؤية صور الأعلام الكونفدرالية في أروقة الكونغرس، ومجسمات المشانق المنصوبة خارج مبنى الكابيتول، والمشرّعين الذين تطالب الحشود بإعدامهم، سوى كمحاولةً فاشية للانقلاب على شرعية الانتخابات بالقوة. وكان رد الفعل اللاحق أقوى دلالة، حيث سعى العديد من أفراد المؤسسة السياسية إلى التقليل من شأن الهجوم، وعرقلوا أي تحقيق شامل فيه، بل وأقصوا أو عاقبوا من خالفهم الرأي –حتى داخل صفوفهم نفسها.
لا ينبغي، ولا يمكن التعامل مع مثل هذه الحوادث في معزل عن السياق. إنها جزء من نمط واضح أوسع: تقويض شرعية الانتخابات، وتصوير الصحفيين على أنهم «أعداء الشعب»، وتمجيد العنف كأداة مشروعة في العمل السياسي، واندماج الأصولية المسيحية مع السلطة السياسية. ويستدعي مراقبون مقولة تُنسب إلى سنكلير لويس، (الروائي والصحفي وأول أميركي يحصل على جائزة نوبل في الأدب في العام 1930) على نطاق واسع: «عندما تأتي الفاشية إلى أميركا، فإنها ستأتي ملفوفة بالعلم وتحمل صليبًا». وثمة شعور بتحقق هذا القدوم، مع اختطاف الرموز الدينية لتقديس أجندات سلطوية، واستدعاء الوطنية لتبرير القمع.
مع ذلك، ما يزال بعض النقاد يرون أن الولايات المتحدة ما تزال ديمقراطية ليبرالية. إنها تُجري انتخابات فاعلة، ولديها صحافة حرّة وقضاء مستقل. لكن آخرين يرون أن الفاشية نادرًا ما تأتي دفعة واحدة، ويغلب أن تزحف تدريجيًا، بخطى متأنية. وهي تأتي متخفية، تتقمّص هيئة الدفاع عن الشعب، واستعادة النظام، وبعث العظمة الضائعة من جديد. وهي لا تبدأ بالعنف الجماعي، وإنما بالاستعداد للتخلي عن المبادئ الديمقراطية إذا بدت غير فعّالة. وفي الحقيقة، لا يمكن لأحد الادعاء بأن الاستعداد لخرق القواعد، وتحميل الأقليات وِزر الأزمات، وإحاطة سلطوية القيادة بهالة رومانسية، هي سمات هامشية في السياسة الأميركية الحالية؛ إنها شؤون مركزية لأحد الحزبين الرئيسيين على الأقل.
في الحقيقة، تبدو الظروف الاقتصادية والثقافية التي غالبًا ما تُفضي إلى صعود المشاعر الفاشية –ثمة التفاوت الطبقي، والانحدار القومي المتصور، والتحولات الديموغرافية المتسارعة، وفقدان المكانة بين الجماعات التي كانت مهيمنة سابقًا- كلها حاضرة في الواقع الأميركي. ويستشهد النقاد بما قاله المؤرخ جيسون ستانلي في كتابه «كيف تعمل الفاشية» How Fascism Works، حيث أكد على أن السياسات الفاشية لا تتعلق دائمًا بإقامة دكتاتورية. إنها تتعلق بخلق مجتمع هرمي لا يكون فيه الجميع مواطنين متساوين، ويُنظر فيه إلى آخرين على أنهم تهديد. وكتب: «الفاشية هي أيديولوجيا توظّف آليات الديمقراطية لتحقيق غاية غير ديمقراطية».
كما هي حالة الأمور، لا يقتصر هذا الاتجاه نحو الفاشية على الولايات المتحدة وحدها. في مختلف أنحاء العالم، وفي الديمقراطيات الموصوفة ذاتيًا، تعاني الليبرالية أمام تصاعد السلطوية الشعبوية، وكراهية الأجانب، وتآكل الثقة العامة. لكنّ الولايات المتحدة ليست دولة عادية. إنها قوة إمبريالية مهيمنة تمارس نفوذًا واسعًا على النظام الدولي، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وثقافيًا. ومن الطبيعي أن تنعكس اتجاهاتها الفاشية على سياساتها الخارجية بالمظاهر التي نراها اليوم: العدوانية المتزايدة، وازدراء القانون الدولي، ودعم الأنظمة الاستبدادية الحليفة، وإضعاف المؤسسات الدولية التي أنشأها الغرب ذاته. وإذا كان ثمة من لا ينبغي أن يشك لحظة في قدوم الفاشية الأميركية الأكيد، فهو نحن، الذين نختبر أسوأ تأثيراتها مباشرة.