القرار الحكومي بين الولاية العامة ومقتضيات الاستقرار*أ. د. ليث كمال نصراوين
الراي
شكّل الإعلان الأخير لوزير العمل عن نية الحكومة إلغاء قرار إنهاء خدمات الموظفين الحكوميين بعد اتمامهم ثلاثين عاما من الخدمة مناسبة لإعادة التفكير في معادلة قانونية دقيقة طالما شغلت الفقه الدستوري والإداري، وهي العلاقة بين السلطة التي تملكها الحكومة بحكم ولايتها الدستورية العامة وبين مبدأ استمرارية عمل المرافق العامة بانتظام واضطراد، وهو المبدأ الذي يفرض على الدولة أن تحافظ على ديمومة سير عملها وتقديم خدماتها العامة دون انقطاع أو تقلب غير مبرر.
فالقرار المرتقب صدوره، والذي أكد الوزير أنه يأتي لتصحيح ظلم لحق بالموظفين الذين أفنوا سنوات عمرهم في الوظيفة العامة، يمثل من جهة ممارسة مشروعة لصلاحيات الحكومة في مراجعة السياسات العامة المتصلة بإدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، والمقررة لها بموجب المادة (45/1) من الدستور. لكنه من جهة أخرى يعيد إلى الواجهة سؤالًا مهمًا لا ينفك يشغل أذهان الباحثين في القانون العام، يتعلق بمدى إلزامية القرارات والأعمال التي صدرت عن حكومات سابقة، والتي صدرت وفق الأصول الدستورية وجرى تطبيقها على الأشخاص المخاطبين بها لفترة زمنية ليست بالقصيرة.
ولا تقتصر هذه الإشكالية على تغيّر السياسات بين حكومة وأخرى، بل تمتد أحيانًا إلى تناقضات داخل الحكومة ذاتها. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما شهدته إحدى الحكومات السابقة من حالة عدم ثبات في الأحكام المتعلقة بمنح الموظفين العموميين إجازات دون راتب، سواء من حيث مدة الإجازة أو شروط استحقاقها، كما ورد في نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام لسنة 2024 الذي حل محل نظام الخدمة المدنية.
فهذه الحالة من إصدار قرارات ثم الرجوع عنها لا تمس حقوق الموظفين فحسب، بل تؤثر سلبا في ثقة المواطن بانتظام المرفق العام وقدرته على التخطيط لحياته المهنية ضمن قواعد مستقرة. وهو ما يجعل المسألة ليست اختلافا بين حكومتين، بل اضطرابا داخل الحكومة الواحدة، الأمر الذي يكشف الحاجة إلى بنية قرار إداري أكثر تماسكا وقابلية للتوقع.
إن الفقه القانوني المقارن يضع أطرًا واضحة لمثل هذه الإشكاليات في عمل السلطة التنفيذية؛ ففي فرنسا مثلا يميز مجلس الدولة بين سلطة الإدارة في تعديل سياساتها وبين واجبها في احترام الحقوق التي نشأت في ظل القرارات السابقة، ويلزمها بتسبيب كاف عندما تتراجع عن توجه اتخذته هي نفسها. وفي ألمانيا يشدد القضاء على ضرورة أن تكون القرارات الإدارية، حتى عند مراجعتها، قابلة للتوقع ومتسقة مع ما سبقها، بحيث لا يواجه الموظف أو المواطن حالة من "الأمن القانوني المهزوز" الذي يعد في حد ذاته إخلالا بضمانات دولة القانون. ويتلاقى ذلك مع اجتهادات القضاء الإداري الأردني الذي أكد على حق الإدارة في تعديل القرارات التنظيمية، لكنه سحب منها هذه السلطة عندما يتعلق الأمر بمراكز قانونية استقرت أو حقوق اكتسبها الأفراد على أساس مشروع.
إن تحقيق التوازن بين ممارسة الحكومة لولايتها العامة، والتي تشمل عند الضرورة تعديل القرارات والسياسات السابقة، وبين ضرورة الثبات في إدارة المرافق العامة، يكون من خلال إعمال مجموعة من الضوابط، أهمها التسبيب في إصدار القرارات الإدارية، والدراسة المسبقة، وتقدير الآثار المؤسسية. وهذا التوازن يمكن بلوغه عبر الالتزام بالتشريع الأهم في هذا المجال، وهو نظام التنظيم الجيد وتقييم الأثر للتشريعات والسياسات لعام 2025، الذي يعد خطوة مفصلية في بناء قرار حكومي رصين يستند إلى منهجية علمية واضحة في صناعة القرار.
فهذا النظام المستحدث يفرض على الجهات الحكومية دراسة آثار أي تشريع أو سياسة قبل اعتمادها، وتحليل البدائل المتاحة، والتشاور مع أصحاب المصلحة، والتأكد من الاتساق مع التشريعات النافذة والخطط الوطنية. كما يهدف هذا النظام إلى منع التسرع في القرارات، وضمان صدورها على أساس علمي ومؤسسي، بما يعزز جودة التشريع واستقرار المرافق العامة، ويحد من ظاهرة التراجع المتكرر عن القرارات بعد إصدارها.
وتزداد اليوم الحاجة إلى هذه الضوابط في ضوء الرؤى الملكية السامية التي تدعو إلى تحديث القطاع العام، وهو مسار يقوم على بناء منظومة قرار رصينة، متأنية، بعيدة عن ردود الفعل، وقادرة على استشراف آثار القرارات قبل إصدارها. فالتسرع في سن الأنظمة أو تعديلها ثم التراجع عنها بعد أشهر قليلة لا يصنع تحديثًا، بل يخلق حالة من عدم الاستقرار الإداري التي تضعف الجهاز الحكومي وتربك الموظفين العاملين فيه والمتعاملين معه.