الغد
في عصر بات فيه الوصل بين بني البشر أسهل من القطع، وتطورت فيه وسائل الاتصال من حالة قاطبة خطية بين مرسل ومستقبل، إلى حالة مستقطبة علائقية وذات رجع وصدى، من مرسل أو مجموعة، إلى مستقبل أو مجموعة، وسالت صلابة الصورة ومحتواها بعد أن كانت جامدة ومتحجرة في النمط الإعلامي التقليدي للعرض بما تحمل من علم وفكر، وباتت مائعة قابلة للتشكيل والتلاعب، وبعد أن كان يُنْظَر للعلاقات الإنسانية على أنها حاجة تأتي للحفاظ على بنيان المكون الاجتماعي، بتنا نطرح المسألة الغائية من وراء الاتصال وما يدفع البشر دفعاً، إلى التعطش لكل وسيلة تُظْهِر البعد الخاص للفرد داخل الإطار العام للمجتمع (سواء الواقعي أو الرقمي).
وبات يُنظَر للإعلام لا كمصدر يُرْجَعُ له فقط، بل كغاية تُنْشَد وتُحْمَد، إكسيراً وركيزةً للحفاظ على صورة النسق لمجتمع بجانب آخر، ومن هنا يأتي التساؤل: كيف يلعب الإعلام اليوم دور السلطة النابعة من الغائية الجديدة هذه؟، كيف يخاطب النفس خطاب السيولة بعدما فُكَّ جمود الماضي الكلاسيكي؟، وكيف ذابت عواطف الإنسان لتحلّ في الإعلام بين قطبي الإنساني والمؤنسن؟.
سلطة الغائية: من توجيه الرأي إلى خلقه
بعدما لعب الإعلام دوره ووظيفته التقليدية في إعلام الناس وإخبارهم بأمور دنياهم ومعاشهم، وما يعنيهم من سياسة وثقافة واقتصاد، فإنه ومع تطور وسائل الإعلام القديمة الجماهيرية، ودخول الوسائل الرقمية الحديثة إلى المشهد المتجدد، تَطَبَّع الإعلام بقوى هذه الوسائل، وسار سير خيوط الشبكة العنكبوتية ليصل لكل حي وبيت، لا كمعلومات وأخبار فقط، بل كأداة تأثير وحرية وتفكير، محولاً المُسْتَقْبِل من مجرد نقطة تنتهي عندها الرسالة الاتصالية ليحللها ويتحرك، إلى كيان ينتج ويتفاعل ويخلق رجعاً للصدى، بعدما حازه هذا الصدى وحرَّكَه وشَكَّلَه.
إن الإعلام وبعد أن كان أداة لتحريك الرأي المستند إلى بنيوية الأفكار الاجتماعية الأصيلة لدى الفئة المستقبلة، أصبح عاملاً أساسياً لا بل وسبباً لإعادة تحكيم هذه البنيوية وكسرها في كثير من الأحيان، وقدَّم الحرية المشروطة للناس لكي يتفاعلوا، تفاعلاً منتجاً ومُغَيّراً للأصول وللمعايير، والشرط في هذه الحرية هو كل ما يحدده المتحكم الأساسي في النظام الإعلامي، أو كما يسمى أكاديمياً بحارس البوابة، لم يعد الإعلام عاملاً ناظراً ومؤشراً إلى اتجاه المسير والرأي، بل منظراً خالقاً للحالة المشهدية، وأيضاً لدرجة حدَّتها وتطرفها، فإذا كانت الغاية من الوسيلة الإعلامية إيصال الرسالة لانتظار الحكم من الشارع العام، أصبح الحكم مقترناً وبقوة بباطن نص الرسالة نفسها.
القصة أداة للذوبان السلطوي
كما يلعب الحس لدى الإنسان دور المحدد والمشير، فإن الإعلام بأدواته النفسية التي طورها من الشعور البشري وقضاياه ليقوم بالمثل المطابق، فلقد هضم الإعلام داخل نظامه وبنيانه مركزية العاطفة الإنسانية ومحدداتها، حتى بتنا نرى البشر والشعوب تُحَكِّم السرد الإعلامي وفقاً لإنسانيته أكثر من مسألة المهنية وما عليها من تراتيب وقواعد، وباتت الجموع تطالب الصحافة والمؤسسات الإعلامية بالقصة من وراء الخبر، وأنسنه الأرقام (كما في الصحافة الإحصائية والاقتصادية) دون سردية باهتة حتى لو كانت معيارية!.
ومن هنا، كان للإعلام أن يوظف الخطاب الاتصالي الإنساني العام، ليذيبه داخل الخطاب الإعلامي ويلبسه لباس الصحافة والسرد الصحفي، وإن هذا الذوبان الحاصل ليتحقق لما للسرد القصصي من مقدرة على كسر جمود العقلانية الواعية، إلى العاطفية الفطرية، وهنا لا أقول القَصَصَ (بفتح القاف) بمعنى التتبع، فهذا يُنْشِدُ الوعي والنباهة ومثل ذلك نراه في الصحافة الاستقصائية، لأن هدفها يتركز في سير المتلقي ضمن خيوط السرد لا التعرض له فقط أو التأثر به بالضرورة، أما المعنى العام المراد والمستخدم "للتسلطن الإعلامي السيادي على الرأي العام"، فهو القِصّة (بكسر القاف) وما لخصائصها من قدرة على الإشباع دون بلوغ المراد المفترض بالضرورة.
بين الإنساني والمؤنسن
فإذاً هي قِصة تسعى للتسلطن، والإعلام هو الوسيلة المستخدمة والباعث عليها، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه المصطلحات (الأنسنة، الإنساني، المؤنسن وما تفرع منها) أكاديمياً شائكة وغير واضحة، وليس لها ضوابط محددة، وذلك لسببين: الأول أن العلوم الإنسانية مائعة، فلا قياس يحدد أطر القضايا إلا ما اصطلح عليه أهل الاختصاص أنه حد وفاصل وإطار، والثاني أن النفس البشرية جدلية هي بذاتها، ولا تفهم العواطف إلى من خلال وقع صداها على الأرض، ويمكن لنا أن ننظر هنا إلى أي سلطة محركة على أنها بواعث العاطفة، سواء أكانت سلطة الإنسان على نفسه، أو سلطة الدين، المجتمع، الحكومة، الدولة عموماً أو غير ذلك، أما بالعودة لمصطلح الأنسنة، فهنا نطرح فكرة قد تكون إطاراً ناظماً ومقارباً لرسم المصطلح، لو اصطلحنا على أن هناك فرقا شاسعا بين ما هو إنساني بجوهره، وما هو مؤنسن مصطنع، فإننا حينما نسقط الاتصال (أصل الإعلام) عليهما نجد التباين في المسارين، فالاتصال الإنساني هو ذلك الذي يرجو خطاب العاطفة المجردة بفطرتها وأصالتها، ولأن الإنسان صراع عاطفة وعقل، فتجييش العاطفة فعل مؤقت وكذا التأثير الإنساني النابع من السرد الاتصالي، أما المؤنسن، فلأنه لا يتجرد، ويتركب على أدوات تطيل عمره وعمقه، وتزيد من إحكامه ضمن صراط مقصود بأهدافه، فيكون ذا أمد طويل، ونسق أقوم ولو ظاهرياً ولكن طبعاً منعدم الأصالة، ومن هذا الفهم نرى أن المؤسسة الإعلامية السلطوية تسعى في الصورة الغالبة لخطابها، إلى تبني تيار (المؤنسن) خدمةً لها للحفاظ على استدامة سلطويتها لطول الأمد المرجو، ليستمر القبول والإقناع، فالإنساني يُجَيّش العواطف لكن بمدى قصير وبدون إحكام على كل العناصر المُغَيّرة، أما المؤنسن فيرسخ الاستدامة وبالمعايير السلطوية الضابطة.
وجوب العاطفة حلاً لمعضلة الحياد
لعل الحديث عن الأنسنة يدفع دوماً إلى التحييد، ضماناً لحرية الفرد المزعومة وتخصيصاً للأنى والفردانية الليبرالية في العصر الراهن، ومن هذا يخلط الناس دوماً بين مفهومين أصيلين وحالتين متقابلتين، وهما مفهوما الحياد والحياز، فالتحييد فكراً هو الخروج من الجوانب أو الأطراف، والتمركز في اللب أو الأصل، وبما أنه لا يمكن أن تتركز التيارات الفكرية لكل البشر معاً وهذا صحيح، ولكن من قال إننا لا نستطيع أن نمركز العاطفة (فطرية المنبع والمشتركة عند كل البشر)، مركزية القيم (التحييد القيمي) لمجتمع معين، أرضيته المشتركة، وهذا حيادٌ يمكن إيجاده ولو نظرياً، أما التحييز فهو كالسياسة مثلا، عكس التحييد تماماً وهذا ليس عيباً أكاديمياً، بل ظاهرة مقابلة لأختها السابقة، مفهومها الخروج من اللب إلى الفروع والأطراف، إن ما يفعله الإعلام من تحييز أيديولوجي طويل الأمد (المؤنسن)، هو بالضرورة خروج عن هذا اللب القيمي المشترك، وهنا يكمن وجوب العاطفة والأنسنة لا كخيار أخلاقي فقط، بل كمنهج (تحييد) إعلامي لمقاومة التجريد (مع التأكيد على عدم وجود إعلام محايد)، فإذا كان التحييز يدفع نحو الفروع المتباينة والمصطنعة، فإن الأنسنة تدعو إلى تمركز الغاية من الرسالة في أصل الإنسان وفطرته وقيمه، لتكون أنسنة الإعلام: الشرط الوجودي لاستعادة الوعي والمناعة المجتمعية أمام سلطة الغائية ووهْم الحياد.