الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
داريل لي* - (مجلة تيارات يهودية) عدد صيف 2025
يُظهر التاريخ الفلسطيني أنّ حملات الكفاح المسلّح غالبًا ما تكون محفّزًا لتحقيق مكاسب في مجال التشريع الدولي.
منذ أن أطلقت حركة "حماس" عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كرّست "محكمة العدل الدولية" في لاهاي -وهي أعلى محكمة في منظومة الأمم المتحدة- أكثر من ثلث جلساتها لفلسطين، وهو أكثر مما كرّسته لأي قضية أخرى. وفي كانون الثاني (يناير) 2024، أعطت المحكمة الضوء الأخضر لدعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وهو تطور لافت بالنظر إلى مدى اعتماد إسرائيل المتكرر على إبراز شرعيتها الخاصة، وبالتالي عنفها الإبادي، في إطار الصلة مع إبادة النازيين لليهود. ثم في تموز (يوليو)، وفي ما قد يكون الهزيمة القانونية الأبرز التي واجهتها إسرائيل على الإطلاق، قطعت المحكمة شوطًا أبعد وأمرت بإنهاء احتلال إسرائيل للقدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة "بأسرع وقت ممكن". وعلى الرغم من أنّ مختلف هيئات الأمم المتحدة، بما فيها "محكمة العدل الدولية"، لطالما أدانت اللاشرعية والخروج على القانون في سياسات الاحتلال الإسرائيلي على مدى عقود، فإنّ رأي تموز (يوليو) كان أوّل حكم يصدر عن محكمة دولية يصف إسرائيل بالفصل العنصري، وأول حكم يأمر بانسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في العام 1967 من دون اشتراط تسوية تفاوضية مسبقة.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، تواصَل تراكم المكاسب القانونية الفلسطينية بسرعة، حين أصدرت "المحكمة الجنائية الدولية"، وهي هيئة قانونية منفصلة مقرها أيضًا لاهاي، مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية -لتكسر بذلك نمطها السابق المقتصر على ملاحقة قادة أو مسؤولين غير غربيين. واستمر الحراك القانوني حتى كانون الأول (ديسمبر) مع فتح "محكمة العدل الدولية" قضية منفصلة ضد محاولات إسرائيل وقف عمل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، التي تقدم مساعدات إنسانية للاجئين الفلسطينيين.
على هذه الخلفية، ليس من غير المعقول افتراض أن هذه الخطوات غير المسبوقة في القانون الدولي، مهما كانت متأخرة وقاصرة، تعكس ببساطة مدى الهول غير المسبوق الذي تشكله الحرب الإبادية الإسرائيلية في قطاع غزة. وثمة شيء من الحقيقة في هذا، خاصة حين نعلم أنّ حجم وسرعة وشدة تدمير إسرائيل لغزة حطمت فعليًا كل الأرقام القياسية في تاريخ الحروب الحديثة. لكنّ التاريخ الفلسطيني مثقل بالفظائع غير المسبوقة في وقتها، والتي إمّا مرّت بلا رد، أو أنها فشلت في توليد استجابات متناسبة. في العام 1982، على سبيل المثال، اعتمدت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" قرارًا وحيدًا يصف مجزرة صبرا وشاتيلا -التي قتل فيها وكلاء إسرائيل الكتائبيون في لبنان آلاف اللاجئين الفلسطينيين- بأنها عمل إبادة جماعية، لكنّ أي هيئة قضائية دولية لم تذهب بالقضية أبعد من ذلك على الإطلاق. بدلًا من ذلك، كان ما يدفع القانون الدولي إلى التحرك بشأن فلسطين في الماضي -كما الآن- على ما يبدو هو الضغط الذي تمارسه حركات التحرر المناهضة للاستعمار. وهو ما يفسر أنّ الذروة التاريخية للجهود القانونية الفلسطينية -التي لم تُبذل في المحاكم وحدها، بل أيضًا في هيئات شبه تشريعية مثل "الجمعية العامة للأمم المتحدة"- حدثت في سبعينيات القرن الماضي، التي لم تكن بالضرورة لحظة مجازر وخسائر قياسية في الأرواح.
في ذلك الوقت، تمكّنت "منظمة التحرير الفلسطينية" من حشد الجماهير الفلسطينية والعربية وكسبت تعاطف غالبية الجنوب العالمي الذي كان يعيش مرحلة تحرر من الاستعمارات ويحقق نجاحات استقلالية أعادت رسم خريطة العالم، وملأت الأمم المتحدة بالدول الجديدة. وأفضى حراك المنظمة في نهاية المطاف إلى سلسلة لافتة من المكاسب القانونية للقضية الفلسطينية، شملت الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والاعتراف بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" ممثلًا له، إلى جانب توسيع قواعد الحرب بحيث تُشرعن حروب التحرر المناهضة للاستعمار.
في كتابها "العدالة للبعض: القانون ومسألة فلسطين" Justice for Some: Law and the Question of Palestine، تقدّم الباحثة القانونية نورة عريقات مجازًا مفيدًا لفهم ما يحرّك القانون الدولي، فتشبّه القانون بـ"شراع القارب" -بنية تضمن الحركة فقط، بينما "رياح" التعبئة السياسية هي التي "تحدد الاتجاه". وتكتب عريقات: "القانون لا يدين بالولاء لأي نتيجة أو لاعب، على الرغم من تحيّزه للاعبين الأكثر قوة. الوعد الوحيد الذي يقدمه هو أن يتغير ويخدم مصالح اللاعبين الأكثر فاعلية". هذا التحليل يضيء السبب في أن القانون الدولي تطور استجابةً للضغوط الفلسطينية في السبعينيات، ولماذا أصبحت أروقة هذا القانون موقعًا لطاقة متجددة في الكفاح الفلسطيني بعد تشرين الأول (أكتوبر) 2023، حيث التقط النضال رياحًا صاعدة من الاحتجاجات الجماهيرية العالمية المناهضة للحرب والاستعمار، والإجراءات المباشرة التي عطلت البنى التحتية وأربكت مصنِّعي الأسلحة، والاعتصامات في الكليات والجامعات، والمواجهات المستمرة صغيرة النطاق في أروقة الحكومات والشركات والمنظمات غير الربحية.
لدى فحص هاتين اللحظتين معًا، سيكون من المستحيل تجاهل حقيقة أنّهما ليستا مرتبطين بـ"رياح" التعبئة الشعبية فحسب، بل بعامل آخر أيضًا: مركزية الكفاح المسلح في السياسة الفلسطينية في الحقبة المعنية. سواء تعلق الأمر بكفاح "منظمة التحرير الفلسطينية" المنطلق من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في السبعينيات، أو بحملة حرب العصابات في المدن التي تخوضها "حماس" داخل قطاع غزة اليوم، كان الكفاح المسلح -ليس العنف المجرّد، وإنما القوة المنظمة المتجذرة في الحركات الجماهيرية- تاريخيًا هو الرافعة الدامية التي دفعت قضية فلسطين إلى صدارة الأجندة القانونية الدولية. وأسباب ذلك واضحة بما يكفي. بالمقارنة مع الشعوب المضطهدة الأخرى التي قد تسعى إلى الاستقلال أو حكم نفسها -سواء كانت شعوبًا مستعمَرة في مستعمَرات أوروبية رسمية مثل الهند والجزائر، أو أقليات داخل دول غير غربية مثل الأكراد في تركيا، أو التبتيين في الصين- فإنّ الفلسطينيين، كما قال لي المؤرخ عبد الرزاق التكريتي، "يتعاملون مع دولة استعمارية استيطانية لم يكن لديها أي مشروع لدمجهم، حتى كمجموعة مقموعة مضطهدة".
وفي مواجهة خصم إقصائي إبادي من هذا النوع، لا يستطيع الفلسطينيون أن يشقوا طريقهم للخروج من الاستلاب الذي يعيشونه بالتصويت والاحتجاج والاضطرابات. بل وربما لا يستطيعون شق طريقهم للخروج بالقتال أيضًا، لكنّ كفاحهم أثبت على الأقل قدرتهم على تهديد الاستقرار الإقليمي والدولي، وبذلك إجبار الدول على الاستجابة، بما في ذلك -وبخاصة- من خلال المحافل الدولية. وكما قال التكريتي: "لو أن الفلسطينيين لم يطوّروا قدرتهم العسكرية الخاصة المستقلة، لكانت قضيتهم للتحرر الوطني قد مُحيت منذ زمن بعيد، ولما حققت حقوقهم غير القابلة للتصرف أي اعتراف دولي".
في السبعينيات، فرض الفلسطينيون حضورهم وشدوا الانتباه إليهم عن طريق إطلاق حركة مسلّحة وجماهيرية اكتست بطابع دولي بطبيعتها بالنظر إلى نفيهم وتواجدهم في مختلف الدول العربية. وقد صعد ذلك الكفاح سريعًا إلى صدارة الاهتمام العالمي بعد أن استفزّ هجمات إسرائيلية على عدة دول مضيفة، مما أدى إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. وقرأ الدبلوماسيون حول العالم هذا الاضطراب باعتباره نداءً يدعو إلى اتخاذ إجراءات سياسية وقانونية. ومن ذلك ما قاله ممثل إسبانيا في اجتماع لـ"الجمعية العامة للأمم المتحدة" في العام 1970: "النزاع في الشرق الأوسط، في رأي الوفد الإسباني، هو الأكثر أهمية وخطرًا من بين النزاعات التي تعصف بالبشرية في الوقت الراهن"، وهو شعور تم التعبير عنه على نطاق واسع في ذلك الاجتماع. وأضاف الدبلوماسي الإسباني أنه ما لم تتدخل الأمم المتحدة لوقف الفوضى المتصاعدة، فإنّ "الحرب المحتملة الراهنة ستؤدي بشكل حتمي إلى مواجهة أخرى، مع الخطر الواضح بأن تتحول إلى حريق عالمي". واليوم، بعد أكثر من خمسين عامًا لاحقًا، تعمل عملية "طوفان الأقصى" بطريقة مماثلة، حيث لا تكتفي بإثارة تيار عالمي من الضغط الشعبي فحسب، بل تثير أيضًا طيف التهديد باندلاع حرب إقليمية من خلال الجبهات المترابطة في لبنان وإيران والعراق واليمن.
وقد هزّت العملية الوضع الدولي القائم، وأعطت جرأة لقوى ناشئة مثل جنوب أفريقيا للسعي إلى فعل شيء أكثر جسارة وقوة في المحافل الدولية. وحتى المقرّبين من دوائر المؤسسة الاستعمارية، مثل كاتب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان -الذي يصف "حماس" بأنها "منظمة مريضة تسببت بضرر هائل للقضية الفلسطينية"- لم يتمكنوا من تجاهل الضغوط التي صنعتها الحركة، وجادل في مقال رأي حديث بأنّ الوضع الراهن المتمثل في "التمرد الدائم" في غزة -التي يسميها "فيتنام على البحر المتوسط"- يجب أن يتم التعامل معه سياسيًا، وإلا فإنه "سيهدد بشكل حتمي استقرار الأردن ومصر" ويقوّض "أعمدة هيكل التحالف الأميركي في الشرق الأوسط نفسه".
قد يبدو اقتراح أن "الخير" الكامن في القانون الدولي و"الشر" الكامن في العنف لا يمكن فصلهما بسهولة منافياً للحدس -أو حتى فاضحًا- خاصة حين يتجاوز العنف المناهض للاستعمار المحظورات التي يفرضها القانون الدولي على استهداف المدنيين وأخذ الرهائن. لكنّ مثل هذه الانتهاكات لا تكاد تميز الكفاحيين المناهضين للاستعمار عن الأنظمة التي يقاومونها؛ فبعد كل شيء، ما هو على المحك في النهاية هي الشرعية على الساحة العالمية، أي الحق في المشاركة في ما سمّاه عالم السياسة، ستيفن كراسنر Stephen Krasner، "النفاق المنظّم" للنظام القانوني الدولي. وفي حين أنّ العنف المناهض للاستعمار قد ينفّر حلفاءً وداعمين محتملين في الغرب، فإنّ الدول غير الغربية التي ترى نفسها وريثة لمثل هذه الكفاحات أو حليفة لها تظل تتمتع بنفوذ كبير في الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية (وهو ما يسميه الصهاينة، ازدراءً، "الأغلبية التلقائية" التي تصوِّت باستمرار لإدانة إسرائيل). وهذا الدعم مهم إلى درجة أنّه، إلى جانب التهديد باستخدام (الفيتو) الروسي والصيني في مجلس الأمن، أسهم مرارًا في إحباط الجهود الغربية لإضافة "حماس" وفصائل فلسطينية أخرى إلى لوائح الأمم المتحدة للإرهاب؛ ونتيجة لذلك، ما تزال العمليات المسلحة التي تنفذها تلك الجماعات تحتفظ بشيء من الشرعية الدولية حتى هذا اليوم.
بطبيعة الحال، في ذلك الوقت كما هو الآن، لم تستطع المكاسب التي تحققت لفلسطين في المحافل الدولية أن توقف العدوان الإسرائيلي. ما تزال الإبادة الجماعية مستمرة، ولا أحد يتوقع رؤية مجرمي الحرب الإسرائيليين في قفص الاتهام في أي وقت قريب. على مدى عقود، ظلت جهود التشريع الدولي بشأن فلسطين عالقة بفتور في مساحة بين "غير كافية" و"أفضل من لا شيء"، في ما وصفته عالمة الأنثروبولوجيا، لوري ألين Lori Allen، بأنه "تاريخ من الآمال الكاذبة". وكما قال متأسفًا قاضٍ من جنوب أفريقيا العام الماضي، عندما أمرَت "محكمة العدل الدولية" متأخرة بوقف إطلاق النار في رفح، والذي تجاهلته إسرائيل على الفور: "المحكمة ليست سوى محكمة"! في أسوأ حالاته، كان القانون سلاحًا ضد الضعفاء، كما رأينا حين سعى المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق ثلاثة من قادة "حماس" إلى جانب نتنياهو وغالانت، على أساس تهم ربما كانت أخطر. في مواجهة الموت اللامتماثل بشدة الذي تسلّطه آلة القتل الإسرائيلية على غزة، عملت محاولة المدّعي العام لإحداث "توازن" على نزع الشرعية عن الكفاح المسلح الفلسطيني بالمعاني القانونية، حتى بينما تحاول إسرائيل القضاء عليه عمليًا من خلال قتل قادة "حماس" قبل أن يتم اعتقالهم من الأساس.
مع ذلك، على الرغم من عجزها عن كبح العنف الاستعماري، فإنّ المكاسب القانونية الدولية تستطيع أن تتيح للحركات فرصًا جديدة لممارسة الضغط. في السبعينيات، مكّنت الاستراتيجية القانونية التي تبنتها "منظمة التحرير الفلسطينية" معركتها الكبرى، محوّلة التضامن العالمي مع فلسطين إلى مكاسب ملموسة -مثل قدرة قادة المنظمة على السفر (بما في ذلك بجوازات سفر دبلوماسية)؛ وجمع الأموال؛ والحصول على الأسلحة بسهولة أكبر. واليوم، مع تهديد الحرب الإقليمية، ونشاط بعض حكومات الجنوب العالمي، والضغط الشعبي في شوارع الشمال العالمي، أصبحنا نشهد من جديد تحوّل المكاسب القانونية إلى أدوات مفيدة لفتح مساحات للمزيد من النضال. وقد أعلنت 14 دولة -من بينها إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا- مسبقًا عن نيتها التدخل رسميًا لدعم دعوى جنوب أفريقيا بشأن الإبادة الجماعية في غزة، وقد تنضم إليها دول أخرى. كما اتسع نطاق المواجهة ليشمل حلفاء إسرائيل المقربين، حيث تواجه ألمانيا دعواها الخاصة بارتكاب إبادة جماعية التي رفعتها ضدها نيكاراغوا بسبب صادراتها من الأسلحة لإسرائيل ومحاولاتها وقف تمويل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا). حتى إنّ ألمانيا بطأت بهدوء ولفترة وجيزة وتيرة شحنات السلاح إلى إسرائيل، ثم أعلنت الآن على الملأ أنها ستعيد تقييمها لهذه الشحنات بسبب مخاوف قانونية. وفي أفضل الحالات، انعكست التحركات في المحاكم على الحركات الشعبية: على سبيل المثال، استغل أكبر اتحاد للنقابات العمالية في جنوب أفريقيا قضية "محكمة العدل الدولية" كفرصة للتنديد بشحنات الفحم إلى إسرائيل، متسائلًا عن سبب استمرار الحكومة في إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع دولة ترتكب إبادة جماعية.
ثمة بالتأكيد فروق مهمة عن سياق السبعينيات؛ لقد تلاشى زخم حركات إنهاء الاستعمار الذي رافق تلك المرحلة منذ زمن طويل، والانقسامات في السياسة الفلسطينية تركت الحركة الوطنية من دون ممثل واضح. ولكن، وعلى الرغم من كل قيودها ومحدداتها، توضّح التطورات الأخيرة أن الطريق إلى الأمام لا يكمن في سد الفجوة بين وعود القانون وتطبيقه، وإنما في تحويل تلك الفجوة إلى وسيلة لإعادة توليد الطاقات الشعبية وتوجيهها. ويوحي تاريخ التشريع المناهض للاستعمار بأنّ الفائدة الحقيقية للقانون لا تكمن في قدرته المباشرة على تقييد المُستعمِر (بكسر الميم)، وإنما في الأدوات التي يمنحها للمستعمَر (بفتح الميم) لإعادة تشكيل مشهد النضال السياسي.
***
في البداية، اختبر الفلسطينيون القانون الدولي أساسًا كأداة للاستلاب. فقد كرّس "صك الانتداب" الصادر عن "عصبة الأمم" دعم "وعد بلفور" لإقامة "وطن قومي يهودي" في فلسطين في القانون الدولي، وأوصى قرار لـ"الجمعية العامة للأمم المتحدة" في العام 1947 بتقسيم البلاد، وهو ما مهد الطريق لعمليات الطرد الجماعي خلال النكبة، حين هجّرت القوات الصهيونية أكثر من 700 ألف فلسطيني إلى ما وراء حدود ما أصبح إسرائيل. وانتهى المطاف بمعظم لاجئي النكبة في الأردن ولبنان وسورية المجاورة، في ما لم يكن نفيًا جغرافيًا فحسب، وإنما قانونيًا أيضًا.
Image4_9202530211659715350018.jpg
في نظام دولي ناشئ قائم على دول قومية مستقلة حديثًا في ذلك الوقت، لم يعد لدى الفلسطينيين بلد يعودون إليه ولا حقوق مواطنة في أي مكان؛ كانوا في وضع "الخارجي" الذي وصفه المحامي الفلسطيني أردي إمسيس Ardi Imseis بـ"التهميش القانوني الدولي" international legal subalternity. ومع افتقار الفلسطينيين إلى حد كبير إلى أي تمثيل يُذكر في النظام الدولي، كانت قضية فلسطين قد اختفت بحلول العام 1952 من جدول أعمال الأمم المتحدة، وهو وضع تفاقم بعد استكمال الاحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية في العام 1967-حين قدّم مجلس الأمن إطارًا يعامل القضية الفلسطينية كـ"مشكلة لاجئين" إنسانية بدلًا من كونها قضية سياسية.
إذا كان النظام القانوني الدولي أرضًا معادية بطبيعته، فإنّ حركات التحرر المناهضة للاستعمار في منتصف القرن العشرين أعادت رغم ذلك تشكيل ملامحه بشكل كبير. في العقود التي تلت النكبة، نجحت حركات التحرر الوطني في انتزاع الاستقلال من الحكم الاستعماري في معظم أفريقيا وآسيا. وأصبحت الحكومات الغربية أقلية في "الجمعية العامة للأمم المتحدة"، بطريقة جعلت من الجمعية ساحة رئيسية لدول العالم الثالث لخلق توازن مقابل لمجلس الأمن، والانخراط في ما سمّاه المنظّر السياسي أدوم غيتاشو Adom Getachew بـ"صناعة عالم مناهض للاستعمار". فجأة، بدا أن الصبغة المحافظة للمبادئ الرسمية للقانون الدولي، مثل المساواة وعدم التدخل المتبادل بين الدول ذات السيادة، تبدو مثل وسيلة مفيدة لحماية مكاسب الحركات التحررية الناجحة المناهضة للاستعمار، ولتمكين نضالات أخرى ما تزال جارية.
بدخول الفلسطينيين في هذا السياق المواتي، حوّلوا مخيمات اللاجئين في دول الطوق إلى قواعد لكفاح مسلّح من أجل التحرير، والذي كثيرًا ما أُطلق عليه اسم "الثورة الفلسطينية". وأبقت عمليات الفدائيين الفلسطينيين المنطقة في حالة دائمة من حرب منخفضة الشدة، حيث كانت محاولات إسرائيل للقضاء على المقاومة الفلسطينية تستدرج بالضرورة شن إسرائيل هجمات على الدول العربية المضيفة. وسرعان ما رأت الأنظمة المعنية (...) في الكفاح الفلسطيني تهديدًا لاستقرارها. وأسهمت المواجهات بين إسرائيل و"منظمة التحرير الفلسطينية" في إشعال اضطرابات أهلية، (...) كان آخرها الصراع الذي اندلع في لبنان ابتداءً من العام 1975، والذي شمل قتالًا بين وكلاء مدعومين من إسرائيل من جهة، و"منظمة التحرير" وحلفائها من جهة أخرى.
ثم جاءت اللحظة الأكثر زعزعة للاستقرار في العام 1973، خلال ما يُعرف في إسرائيل بحرب "يوم الغفران"، عندما شنّ الجيشان المصري والسوري هجومًا مفاجئًا على إسرائيل لم يتم احتواؤه إلا بفضل جسر جوي عاجل من الأسلحة الأميركية. وكانت "منظمة التحرير" منخرطة في الصراع، حيث شارك مقاتلوها وقادتها في التخطيط والتنفيذ لتلك الحرب. ومن خلال تفجير العنف عبر الحدود، خلق النضال الفلسطيني ضغطًا مضاعفًا على المستوى الدولي، حتى أصبح من المستحيل على النظام الدولي تجاهله. وكلما اضطرت الولايات المتحدة إلى التدخل لدعم الصهيونية، زاد أكثر خطر استعدائها للاعبين الإقليميين -كما ظهر بأكثر الأشكال درامية حين دفع الدعم الأميركي لإسرائيل في العام 1973 بالسعوديين إلى إعلان حظر نفطي رفَع أسعار الوقود وأطلق دوامة تضخمية أثقلت كاهل المستهلكين الأميركيين. وقد أثبتت هذه القدرة على قلب موازين السياسة الإقليمية والعالمية أهميتها -لا كأداة ضغط بيد "منظمة التحرير" فحسب، بل أيضًا كمصدر لدعم نوع من الشرعية: بعد شهر من حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، اعترفت الجامعة العربية بالمنظمة ممثلًا وحيدًا للشعب الفلسطيني. وبعد عقود من تحدُّث الدول العربية باسم الفلسطينيين، عزّز التزام المنظمة بالكفاح المسلح مكانتها كقائدة للحركة الوطنية الفلسطينية، وكممثل يتعيّن على الحكومات والهيئات الدولية التعامل معه. (يُتبع)
*داريل لي Darryl Li: أكاديمي وباحث قانوني وأنثروبولوجي أميركي، يشغل منصب أستاذ مساعد في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو. حصل على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة هارفارد، ودرجة في القانون من جامعة ييل. تتركز أبحاثه على القانون الدولي، والحروب، والهجرة، وعلاقة ذلك بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي. من أبرز أعماله كتابه "The Universal Enemy: Jihad, Empire, and the Challenge of Solidarity" (2019) الذي تناول فيه ظاهرة المقاتلين الأجانب في البوسنة في تسعينيات القرن العشرين، محللًا تداخلات الجهاد مع الإمبراطوريات الحديثة وقضايا التضامن عبر الحدود.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Gavel and the Gun