الدستور
لم تكن الحرب وليدة لحظة. كانت تتشكل في العتمة، تتنفس عبر الأنفاق، وتتمدد بصمت بين طيات الملف النووي وحسابات الردع الباردة. ثم اشتعلت فجأة. اثنا عشر يوماً من القصف المتبادل، والنيران المتقاطعة، والرسائل المشفّرة بالدم. لم تكن حرباً بالوكالة، بل أول صدام مباشر بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من الجهة الأخرى.
إسرائيل قصفت. أميركا تدخلت. إيران ردّت. وفي قلب هذه الدوامة، كانت الخرائط تهتز، والشعوب تدفع الثمن باهظاً. كل طرف أعلن انتصاره. إسرائيل وصفت عمليتها بـ»التاريخية»، مدعية أنها دمّرت نصف ترسانة إيران الباليستية واغتالت قياداتها. إيران أعلنت «الوعد الصادق 3»، مؤكدة أنها أصابت تل أبيب وبئر السبع بأسلحة غير مسبوقة. أما واشنطن، فأعلنت أنها منعت اغتيال المرشد الأعلى، وطرحت مشروع سلام مصحوباً بوعود بتخفيف العقوبات، دون خطوات عملية على الأرض.
لكن خلف هذه العناوين الصاخبة، ظهرت الحقيقة أكثر هشاشة: لا نصر حاسم، ولا تسوية كاملة. فقط هدنة مضطربة، ووقف إطلاق نار هش، واتفاق مؤجل بانتظار الجولة التالية.
إيران تلقت ضربة موجعة: قيادات سقطت، منشآت نووية ضُربت، وشبكات استخبارية كُشفت. لكنها استعادت تماسك القيادة بسرعة، ورفضت التفاوض تحت النيران. تعاملت مع الحرب بوصفها دفاعاً عن السيادة، لا صراعاً بالنيابة. وما زالت تحتفظ بأوراق ضغط ثقيلة: اليورانيوم المخصّب، الحلفاء المنتشرون، والجغرافيا التي تمنحها عمقاً استراتيجياً.
أما إسرائيل، فاستعرضت قوتها، لكنها لم تحقق اختراقاً سياسياً. لا اتفاق في غزة، ولا تهدئة في لبنان، ولا استقرار في سوريا. الجبهة الداخلية تعاني من التوتر، والاقتصاد يتآكل مع كل يوم حرب. ونتنياهو، كعادته، يوظف المعركة سياسياً للهروب من أزماته، من دون أن يقدّم حلاً جذرياً.
الولايات المتحدة، من جهتها، تبدو كمن يدير اللعبة بخيوط دقيقة: تفاوض متى أرادت، وتضرب متى شاءت، وتمنح الأمل حين يناسبها. لكنها لم تعد اللاعب الأوحد. اليوم، طهران تمسك بمفاتيح المرحلة. تستطيع الاستمرار في المواجهة، أو الانسحاب بخطى محسوبة نحو تسوية قد تنهي عزلة طالت وكادت تستنزفها بالكامل.
الحرب توقفت لكنها لم تنتهِ بعد. الجبهات ما زالت مشتعلة، والنية على التصعيد لم تختفِ، والخرائط لا تزال تنتظر ما يُحسم في طهران وتل أبيب وواشنطن. فهل نحن على أعتاب نهاية؟ أم هو الهدوء الذي يسبق عاصفة أخرى؟