معاوية... نسيبنا*سلطان الحطاب
الراي
كانت هذه المنطقة من بلاد الشام والتي سميت "الشرق العربي" عام 1921، وأقيمت عليها إمارة شرق الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية، 1946، موقع انتشار القبائل العربية الأصيلة، لدرجة أن الموسوعة البريطانية، قالت إن أصل العرب من هنا، وأنهم ارتحلوا الى اليمن، قبل أن يتفرقوا مرة أخرى بعد انهيار سد مأرب.
هنا كانت تسكن قبيلة "كلب" العربية النصرانية جوار قبائل عربية عديدة مسلمة، وكلب إحدى القبائل التي استنصر بها معاوية في صراعه على الخلافة التي كانت بينه وبين علي بن أبي طالب، ومن القبائل التي نصرته ايضاً، قبيلة تغلب، التي منها الشاعر الأخطل، الذي كان شاعر البلاط لعبد الملك بن مروان الأموي.
كانت "كلب" التي منها ميسون بنت جدل بن أنيف الكلبية، التي توفيت عام 80 هجري، أي (700م)، قد تزوجت معاوية بن ابي سفيان، الخليفة الاموي الأول ومؤسس الخلافة الاموية، وهي زوجة الخليفة وأم ابنه الخليفة بعده يزيد بن معاوية، وكانت قد لعبت دوراً بارزاً في الحياة السياسية في الخلافة الأموية، فهي أبنة شيخ القبيلة، كما أنها كانت شاعرة معروفة وذات سمعة طيبة.
كانت ميسون من بدو بني كلب، حيث تسكن قبيلتها في الموقر، والزرقاء، وتزوجها معاوية عام 645، بدوافع سياسية، فقد كان هذا الزواج تتويجاً لاجتماع القبائل العربية في دمشق لتأييد الخليفة معاوية بالبيعة، وكان معاوية بحاجة الى تجنيد المسيحيين السريان الارثوكس الى جانبه ضد الرومان، وقد أحبها وقربها وانجبت له طفلهما الوحيد يزيد عام 646م.
جاء النسب بمشورة من الداهية، عمرو بن العاص، الذي أشار على معاوية بعقد لقاء مع زعماء القبائل العربية الممتدة عبر الشام من جنوبه في الأردن حتى شماله.
فدعى معاوية القبائل، وجعل عمرو بن العاص، يدير حوارهم معه، وقال له، أنظر اليهم يا عمرو، فكان عمر يسجل أسماءهم، ويقول، (والله ان هذا لسانه ليشترى يا أمير المؤمنين، )وقد بلغ ذكر مجدل بن أنيف والد ميسون، فاستفسر عنه عمرو بن العاص، فكانت لديه ابنة جميلة تنظم الشعر، وأرسل من يراها ويقرب والدها واسرتها، فلما رأها معاوية، خطبها، لتميل القبائل الى جانبه في فترة كانت قد عاشت تلك الفترة صراع القبائل القيسية واليمنية في بلاد الشام وامتدادها.
انتقلت ميسون من موقع الموقر، التي شهدت لاحقاً بناء قصر لعبد الملك بن مروان، سمي بقصر الموقر، ما زالت آثاره قائمة حتى اليوم، تحمل اسم البلدة وقد جاء على ذكرها، ياقوت الحموي، في كتابه معحم البلدان، وبالفعل، وقفت مجموعة كبيرة من القبائل وناصرت معاوية، وبدأوا الى جانبه مجندين لدعوته، بعد أن أكرم وفادتهم.
عاشت ميسون في دمشق، على ماء بردى، حيث بنى لها معاوية، قصراً سقفه من البلور، واغدق عليها العيش الرغيد، ولكنها لم تنسى أن ترسل ابنها يزيد الى البادية حيث أهلها ليتعلم في البداوة، الفروسية وعاداتها وتقاليدها.
ومع الوقت تذكرت ميسون أهلها، ورغبت أن تهجر دمشق الى البادية، فمنعها معاوية، مذكراً اياها أنها زوجة الخليفة وام ابنه ووريثه، ولكنها أبت، فاتهمها أنها "وامق" أي ناشز، فحزنت، وبلغ بها الحزن مبلغه، الى ان دخل عليها ذات يوم، فوجدها تنشد من شعرها وتقول:
لَبَيْــتٌ تَخْفِــقُ الْأَرْواحُ فِيـهِ
أَحَــبُّ إِلَـيَّ مِـنْ قَصـْرٍ مُنِيـفِ
وَأَصــْواتُ الرِّيـاحِ بِكُـلِّ فَـجٍّ
أَحَـبُّ إِلَـيَّ مِـنْ نَقْـرِ الدُّفُوفِ
وَبَكْــرٌ يَتْبَـعُ الْأظْعـانَ صـَعْبٌ
أَحَــبُّ إِلَـيَّ مِـنْ بَغْـلٍ زَفُـوفِ
وَكَلْــبٌ يَنْبَـحُ الطُّـرَّاقَ عَنِّـي
أَحَــبُّ إِلَــيَّ مِـنْ قِـطٍّ أَلُـوفِ
وَلُبْــسُ عَبـاءَةٍ وَتَقَـرَّ عَيْنِـي
أَحَـبُّ إِلَـيَّ مِـنْ لُبْـسِ الشُّفُوفِ
وَأَكْـلُ كُسـَيْرَةٍ فِـي كِسْرِ بَيْتِي
أَحَـبُّ إِلَـيَّ مِـنْ أَكْـلِ الرَّغِيفِ
وَخَـرْقٌ مِـنْ بَنِـي عَمِّـي نَحِيـفٌ
أَحَــبُّ إِلَـيَّ مِـنْ عِلْـجٍ عَلِيـفِ
خُشُونَةُ عِيشَتِي فِي الْبَدْوِ أَشْهَى
إِلَـى نَفْسِي مِنَ الْعَيْشِ الظَّرِيفِ
فَمـا أَبْغِـي سِوَى وَطَنِي بَدِيلاً
فَحَسـْبِي ذاكَ مِـنْ وَطَـنٍ شـَريِفِ
وهذه الأبيات جزء من قصيدتها، وهي أطول من ذلك.
تأثر معاوية، ونقلها مع ابنها الى البادية في الزرقاء وبنى لها قصراً اندثر، حيث بدأ الأمويون الحلفاء يبنون قصروهم في بادية الأردن ومنها قصر المشتى قرب مطار الملكة علياء، وقصر الحرانة وقصير عمره الذي بناه الوليد بن عبد الملك لزوجته الجميلة أم البنين، وما زال ماثلاً الى اليوم على طريق المفرق، ويزوره الكثيرون، وفيه ساونا، وصور لطيور وحيوانات،وقد تكاثرت هذه القصور، والتي كان يشتي فيها الخلفاء الأمويون،ويمارسون الصيد حتى بلغت ثمانية على امتداد الطريق الى العراق.
أكتب هذه القصة لأذكر بالمكان، الزرقاء، الذي يعتقد الكثيريون أنه مجرد موقع حديث، ولكن ذلك ليس صحيحاً، فالزرقاء قديمة، وقد ذكرت في نقوش الآشوريين. والبابليين القدماء، باسم "زاراكا " وهي مؤنث الأزرق، ولأسمها تفاسير عديدة، أتيت عليها في كتابي الذي يحمل اسم "الزرقاء النموذج الأردني" الذي نشرته جامعة الزرقاء الخاصة، وهي مدينة تقع على الماء المسمى "خو" وهو ماء كان يلتقي عليه الحجيج الشامي والعراقي، قبل التوجه الى ما كان يسمى "النهر المسحور" الذي يأتي من عمان ليخترق طبقات في الأرض، ويظهر على شكل ماء في خو، كان غزيراً ثم يستمر الى ان يصب في البحر المتوسط، باسم نهر الزرقاء كما ذكر فريدريك بيك في كتابه "تاريخ شرق الأردن وقبائلها".
الزرقاء قديمة وهي لم تتكون بعد عام 1948، فقد كانت مدينة للجند، احتلها الانجليز في الحرب العالمية الأولى من الاتراك، وكان فيها معسكر للاتراك، "الجاندرمان"، وقد جاءها الانجليز من فلسطين بعد وصول اللنبي الى القدس، وجاءها الى الأزرق، الأمير فيصل الأول، ليقيم في قصر الازرق في طريقه لاستلام الحكم في المملكة الفيصلية في دمشق، وكان في رفقته لورنس، الضابط الانجليزي المشارك في الثورة العربية.
وقد اهتم الهاشميون بالزرقاء فأقيم فيها أكبر معسكرات الجيش العربي الذي نمت المدينة على أطرافه، وظل المجندون يذكرون، خو، كمركز للتدريب، وفيها بيت للجنرال "كلوب باشا"، قائد الجيش قبل التعريب عام 1956، وفي الزرقاء رابط جزء من الجيش السعودي الذي جاء اثناء حرب 1967، ليشارك الى جانب الجيش العربي في حرب حزيران، وأمضى سنتين قبل أن يغادر.
وفي الزرقاء شارع رئيسي هو شارع الأمير شاكر، وما زالت الزرقاء حيوية تضج بالحياة، وتعتبر ثاني أكبر مدينة بعدد السكان بعد عمان، وقد ورد اسمها في رسائل تل العمارنة في مصر، وفي السجلات الملكية في عهد اختانون، 1375، ق م، باسم، زاركي، وقد مرّ منها صلاح الدين الأيوبي، حيث اجتمعت قواته في حوران قبل أن يتوجه الى عجلون وحوران، والى اذرعات درعا، والكرك، حيث مر في بلدة أدر والربّة.
كنت درست الثانوية العامة عام 1968 في مدرسة الزرقاء المسماة، مدرسة قصر الشبيب الذي بني عام 46، قبل الميلاد، وكنت انظر اليه يومياً من نافذة الفصل في المدرسة، وهو قصر الأمير شبيب المهداوي الجذامي، مقام فوق قلعة رومانية... وما زال حتى اليوم.