الغد
جينيفر كافانا؛ وروزماري كيلانيك* - (فورين بوليسي) 25/6/2025
مفتاح التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران لا يكمن في تصعيد التهديدات، بل في تقديم ضمانات أميركية فعلية تقنع طهران بأن التخلي عن برنامجها النووي لن يقابل بعمل عسكري أو مساع لتغيير النظام، بل بسلام فعلي وفرص اقتصادية.
بعد يومين فحسب من إصداره أوامر بشن ضربات عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية في فوردو وأصفهان ونطنز، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انتهاء الحرب الجوية بين إيران وإسرائيل، مصرحاً بأن الوقت قد حان لإحلال السلام. وكتب على منصته الرقمية "تروث سوشيال": "ربما تستطيع إيران الآن المضي قدماً نحو السلام والوئام في المنطقة". وما يزال من غير الواضح ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصمد، ولكن إذا كان ترامب يأمل في عودة سريعة إلى الدبلوماسية، فمن المرجح أنه سيصاب بخيبة أمل.
يجد ترامب وفريقه للأمن القومي أنفسهم في مأزق. فقد اعترف مسؤولون في الإدارة بأن مخزونات إيران من اليورانيوم عالي التخصيب ومكونات أجهزة الطرد المركزي ربما نجت من العمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل والولايات المتحدة. ومن أجل تحديد مواقعها وتأمينها، ستحتاج واشنطن إلى تعاون طهران. غير أن ترامب ومفاوضيه لم ينجحوا حتى الآن في إقناع القادة الإيرانيين بتقديم تنازلات كبيرة. والأهم من ذلك، أن الإيرانيين يواصلون رفض الدعوات للتخلي بالكامل عن تخصيب اليورانيوم. وقد يأمل ترامب في أن يؤدي استعراضه الأخير للقوة العسكرية الأميركية، إلى جانب الحملة العسكرية الإسرائيلية العدوانية خلال الأسبوعين الماضيين، إلى إجبار إيران على التنازل، ولكن هذا أمر مستبعد. بل على النقيض من ذلك، من المحتمل أن يكون القادة الإيرانيون أكثر تردداً في الدخول في مسار دبلوماسي بعدما سمح ترامب مرتين بإفشال المفاوضات الجارية مع إيران من خلال العمل العسكري، أولاً عن طريق منح الضوء الأخضر للغارات الجوية الإسرائيلية، وثانياً بالانضمام إلى الحرب مباشرة. كما أن تحذيراته التي تتوعد بمزيد من العقوبات العسكرية، وتصريحاته التي تلمح إلى احتمال تغيير النظام، لا تساعد أيضاً.
لا يكمن التحدي الذي تواجهه إدارة ترامب الآن في شدة التهديدات التي أطلقتها، بل في مدى صدقية الضمانات التي يمكن أن تقدمها لنظام إيران. ولكي تنجح مقاربة ترامب القسرية للدبلوماسية في دفع إيران نحو اتفاق نووي قوي، هناك شرطان أساسيان لا بد منهما. أولاً، يجب أن تصدر الولايات المتحدة تهديدات قابلة للتصديق بفرض عواقب شديدة ومؤلمة إذا تجاهلت إيران المطالب الأميركية أو انتهكتها. وقد فعل ترامب ذلك، سواء من خلال منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي أو حشد القوات الأميركية في المنطقة، وبصورة أكثر وضوحاً من خلال الضربات التي وجهها إلى المنشآت النووية الإيرانية. لكن هذه التحذيرات والإجراءات قد يكون لها تأثير محدود على السلوك الإيراني من دون توفر الشرط الثاني، وهو تقديم ضمانات أميركية موثوقة بأن إيران لن تعاني العواقب التي جرى تهديدها بها، أو غيرها من التداعيات، إذا امتثلت للمطالب الأميركية. في الواقع، يحتاج قادة إيران إلى أن يثقوا في أنه إذا رضخت بلادهم وأظهرت نوعاً من المرونة، فلن تحاول الولايات المتحدة كسرها.
من الجدير ملاحظة أن قرار ترامب باستخدام القوة العسكرية الأميركية جعل تهديداته أكثر صدقية، لكنه جعل من الصعب عليه تقديم ضمانات موثوقة. ومع ذلك، ما تزال واشنطن تمتلك خيارات إذا كانت تأمل في إعادة قادة إيران إلى مفاوضات مثمرة نحو اتفاق نووي جديد. سيتعين على ترامب أن يضمن إنهاء إسرائيل لحملتها العسكرية بصورة دائمة، بما في ذلك من خلال تقييد إعادة تزويدها بالذخائر الهجومية إذا استأنفت حربها الجوية. ويجب على الرئيس وفريقه للأمن القومي أن يعلنوا بصورة قاطعة أن تغيير النظام ليس هدفاً أميركياً، وأن يثبتوا جديتهم من خلال سحب القوات الجوية والبحرية التي جرى تعزيزها حديثاً في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، ينبغي على واشنطن أن تقدم تخفيفاً فورياً للعقوبات يبدأ بمجرد توصل إيران والولايات المتحدة إلى إطار عام للاتفاق. ولا شك في أن إعادة إطلاق المسار الدبلوماسي الذي أوقفته واشنطن بصورة مفاجئة في منتصف حزيران (يونيو) سيكون أمراً صعباً ويتطلب صبراً، لكن حل معضلة الضمانات الموثوقة هو السبيل الوحيد لتحقيق هدف ترامب النهائي المتمثل في وضع حد للطموحات النووية الإيرانية.
تهديدات مقرونة بضمانات
ما يزال ترامب يركز على منع إيران من امتلاك سلاح نووي. في الواقع، يمكن تحقيق هذا الهدف بصورة أفضل من خلال الدبلوماسية، وليس الوسائل العسكرية، نظراً إلى القيود الجوهرية التي تعانيها القوة الجوية في تدمير المنشآت النووية المطمورة بعمق ومخزونات اليورانيوم بصورة مؤكدة ونهائية.
تُبرز الهجمات الأميركية على فوردو ونطنز وأصفهان هذه المشكلة بوضوح. فعلى الرغم من أن تقييم الأضرار الميدانية ما يزال جارياً، يبدو أن موقع فوردو تضرر، لكنه لم يُدمر بالكامل. وأشار المتخصص النووي في جامعة هارفارد، غاري سامور، في تحليل نشرته صحيفة "فايننشال تايمز"، إلى أن النظام الإيراني نقل أجهزة الطرد المركزي وربما مواد أخرى من منشأة فوردو قبل استهدافها، مما يعني أن مكونات البرنامج النووي الإيراني نجت على الأرجح من الهجوم. وصرح مفتش الأسلحة السابق في الأمم المتحدة، ديفيد أولبرايت، لشبكة "سي أن أن"، يوم الاثنين الماضي، بأن بعض أجهزة الطرد المركزي "لا يمكن تحديد مكانها"، وأن بعض مخزونات اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 60 في المائة "نقلتها إيران، ولا نعلم مكانها". ووفقاً لتحليل نشره المتخصص النووي جيفري لويس على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن آخر موقع معروف لهذه المخزونات كان في أنفاق داخل مدينة أصفهان، ويبدو أن الولايات المتحدة لم تستهدفها في ضرباتها.
وعلى نطاق أوسع، لا يقتصر البرنامج النووي الإيراني على هذه المواقع الثلاثة، بل يمتد إلى ما هو أبعد منها بكثير. في الحقيقة، تعلمت إيران من الهجوم الإسرائيلي على مفاعل "أوزيراك" العراقي في العام 1981، فصممت برنامجها النووي ليكون موزعاً ومتكرراً [أي مزوداً بأنظمة بديلة واحتياطة] وذات قدرة عالية على الصمود. وكانت الوظائف الحيوية، مثل البحث والتطوير وعلم تعدين اليورانيوم وهندسة أجهزة الطرد المركزي، مدمجة ضمن مؤسسات حكومية وشركات هندسية وجامعات إيرانية مختلفة. لذلك، لا بد أن تأتي بعد الضربات الجوية الأميركية جهود دبلوماسية تقنع إيران بالتعاون في تفكيك برنامجها النووي.
من الواضح أن إيران تخشى خوض حرب طويلة مع الولايات المتحدة. ولهذا السبب، فإن رد طهران على الضربات الجوية الأميركية اقتصر على هجوم صاروخي غير مفاجئ على قاعدة "العديد" الجوية الأميركية في قطر، أبلغت عنه إيران قبل شنه، وجرى اعتراضه بسهولة من دون وقوع إصابات في صفوف العسكريين الأميركيين. ولكن، حتى لو كان قادة إيران على استعداد للتخلي عن كثير من مطالبهم من أجل تجنب الحرب مع الولايات المتحدة، فإن اعتماد ترامب المفرط على التهديدات لن يعيدهم إلى طاولة المفاوضات. وقد أشار الباحث المرموق في العلاقات الدولية والحائز جائزة نوبل، توماس شيلينغ، إلى أن التهديدات الفعالة يجب أن تقترن بضمانات موثوقة، لإقناع الخصم بالاستسلام. وبعبارة أخرى، لكي تنجح سياسة الإكراه يجب أن ترفق بوعود تضمن للخصم أنه إذا امتثل للمطالب فإنه سيتجنب العواقب التي تم تهديده بها.
لا تقتصر المسألة إذن على إقناع إيران بأن الولايات المتحدة ستهاجمها إذا لم تتخل عن برنامجها النووي، بل يجب على واشنطن أيضاً إقناع طهران بالضمانة المشمولة. إذا تخلت عن برنامجها النووي لن يحدث أي هجوم. أما إذا اعتقدت إيران بأن إسرائيل أو الولايات المتحدة ستلجآن إلى استخدام القوة العسكرية في كل الأحوال، فلن يكون لديها أي حافز لتقديم تنازلات.
هناك أسباب عدة تجعل من المستحيل اعتبار إيران صدقية الضمانات الأميركية أمراً مسلماً به. أولاً، تعيش الدول في نظام دولي فوضوي لا توجد فيه سلطة عليا تضمن الاتفاقات وتعاقب من ينكث بها. وهكذا لا تملك إيران أي ملاذ خارجي تلجأ إليه إذا ما خدعتها الولايات المتحدة وسعت إلى تغيير النظام بعد أن تكون طهران قد تخلت عن طموحاتها النووية. ثانياً، هناك معضلة الاتساق الزمني، مما يعني أنه فقط بعد أن تتخلى إيران عن أقوى ورقة ضغط تملكها، وهي برنامجها النووي، سيترتب على الولايات المتحدة الوفاء بوعودها. وأخيراً، تخشى إيران أن تؤدي التنازلات النووية إلى تشجيع إسرائيل والولايات المتحدة على السعي إلى مطالب أوسع في المستقبل. وبالمجمل، يشكل الامتثال للشروط الأميركية مخاطرة بالنسبة إلى إيران، لأن الولايات المتحدة سيكون لديها حافز أقل لضبط النفس بعد حصول ترامب على مراده.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدول أن تنكث بوعودها فوراً أو بعد فترة من الزمن. وخير مثال على ذلك هو مذكرة بودابست للضمانات الأمنية للعام 1994، عندما سلمت أوكرانيا الأسلحة النووية السوفياتية إلى روسيا مقابل تعهد من روسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة باحترام سيادتها ووحدة أراضيها. ولم يدم هذا التعهد سوى 20 عاماً، حيث قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، ثم غزت عمق الأراضي الأوكرانية مجدداً خلال شباط (فبراير) 2022.
في حالة إيران، يبدو النظام مقتنعاً بصورة واضحة بأن الولايات المتحدة ربما تكون عازمة على تغيير النظام، سواء وافقت طهران على تفكيك برنامجها النووي أم لا. وهي اليوم تملك ورقة مهمة تتمثل في معرفتها لمواقع مكونات البرنامج النووي المفقودة. فإذا لم تتمكن الولايات المتحدة من تتبع جميع مكونات البرنامج ومصادرتها، فإنها تخاطر باحتمالية أن تحاول فلول الحكومة الحالية المحاصرة السعي بسرعة إلى صنع قنبلة نووية سراً، أو أن تقع هذه المكونات المفقودة في أيدي جماعات مسلحة لا يمكن التنبؤ بسلوكها. ولذلك، فإن لدى واشنطن دافعاً لعدم التسرع في محاولة تغيير النظام الآن. أما إذا سلمت إيران تلك المكونات أو كشفت عن أماكن وجودها، فسيكون لدى قادتها ما يدعوهم للقلق على بقائهم السياسي ما لم تقدم لهم الولايات المتحدة ضمانات حقيقية.
مشكلة الصدقية
حتى لو كانت إدارة ترامب مستعدة وراغبة في تقديم ضمانات موثوقة لإيران، فإنها ستواجه صعوبة في تحقيق ذلك لأسباب عدة. أول هذه الأسباب هو وجود تناقض جوهري بين التهديدات والضمانات. فالإجراءات التي تتخذها دولة ما لجعل تهديداتها أكثر إقناعاً، مثل نشر القوات العسكرية في مواقع استراتيجية أو استخدام "نظرية الرجل المجنون" كتكتيك لإقناع الخصم بأنها "مجنونة بما يكفي" لتنفيذ تهديداتها المتطرفة، تُضعف في الوقت نفسه صدقية التزاماتها بأن التعاون سيكافأ ولن يستغل.
في تعامله مع إيران، اعتمد ترامب بصورة أساس على التهديدات، سواء تلك التي وعد بها أو تلك التي نفذها فعلاً. وقد أغرق الشرق الأوسط بالأصول العسكرية الأميركية، بما في ذلك المزيد من الدفاعات الجوية والمقاتلات الأميركية الإضافية ومجموعة حاملة طائرات هجومية ثانية تابعة للبحرية الأميركية. واستعمل ترامب وسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات العلنية لتوضيح استعداده لاستخدام القوة العسكرية الأميركية الكاملة ضد إيران. وحرص على أن يرى قادة إيران تهديداته على أنها جدية من خلال تنفيذ ضربات على مواقع نووية إيرانية. كما أظهر ترامب أنه فاعل لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، مستخدماً الخداع لمباغتة إيران، خلال وقت كان يدعو فيه علناً إلى المفاوضات.
والآن لم يعد لدى إيران أي شك في أن ترامب مستعد لتنفيذ تهديداته العسكرية. لكن هذه الإجراءات نفسها جعلت أي وعود بالتعاون من جانب ترامب وفريقه للأمن القومي غير موثوقة. فمع استمرار وجود عسكري أميركي كبير ومتأهب في المنطقة، من المرجح أن يشك قادة إيران في التزام واشنطن بالسلام، ويخشون أن يؤدي الانصياع لمطالب واشنطن إلى ترك بلادهم ضعيفة وعرضة للخطر أمام جولة جديدة من الضربات.
أما التحدي الثاني الذي يواجهه ترامب فليس من صنعه بالكامل، بل يرجع إلى سلسلة طويلة من المرات التي تراجع فيها رؤساء الولايات المتحدة السابقون عن وعودهم أو قدموا ضمانات تبين أنها جوفاء في نهاية المطاف. على سبيل المثال، تؤثر حرب العراق في العام 2003 على التفاعلات الحالية بين إيران والولايات المتحدة. ففي الفترة التي سبقت الحرب، طالب الرئيس جورج دبليو بوش، صدام حسين، بالسماح لمفتشي الأسلحة الدوليين بالدخول إلى العراق لإثبات مزاعم صدام بأنه لم يكن يسعى إلى امتلاك أسلحة دمار شامل. وبعد أشهر من الخلاف، سمح العراق أخيراً بعودة المفتشين خلال تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، مستجيباً لحملة الضغط التي شنها بوش على أمل تجنب ضربة عسكرية. لكن بوش هاجم العراق على أي حال، على الرغم من أن المفتشين لم يعثروا على أي دليل على وجود مثل تلك الأسلحة. وأشارت وثائق لاحقة، مثل مذكرة "داونينغ ستريت"، إلى أن بوش كان مصمماً على مهاجمة العراق بغض النظر عما يجده المفتشون.
بالتالي، لدى إيران كل الأسباب التي تجعلها تخشى تكرار السيناريو نفسه. ففي النهاية، سمح ترامب لإسرائيل بشن عمليات عسكرية منتصف حزيران (يونيو) الحالي، حتى بينما كانت فرق التفاوض الأميركية والإيرانية تخطط لجولة أخرى من المحادثات بعد أيام قليلة. وهو أيضاً من انسحب من الاتفاق النووي الأصلي المعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وفرض عقوبات "الضغط الأقصى" القاسية على الرغم من التزام إيران بشروط اتفاق العام 2015. وفي ضوء هذه التجارب، سيكون من المبرر لطهران أن تشك في أن واشنطن ربما تكون قد قررت بالفعل استخدام القوة العسكرية مرة أخرى في المستقبل بغض النظر عن حجم التنازلات الإيرانية.
وأخيراً، وربما يكون هذا هو التحدي الأكثر تعقيداً وصعوبة، يجب أن تشمل ضمانات ترامب لإيران إسرائيل أيضاً. لكي تنجح الدبلوماسية، على ترامب أن يقنع إيران بأن التنازلات لن تمنع هجوماً أميركياً مستقبلياً فحسب، بل ستجبر إسرائيل أيضاً على احترام وقف إطلاق النار الجديد وتمنعها من شن عمليات عسكرية جديدة في وقت لاحق. وهذه مهمة صعبة لأن إسرائيل أثبتت بالفعل قدرتها واستعدادها للتصرف بصورة منفردة، في حين أظهر ترامب رغبة محدودة (أو ربما قدرة محدودة) بشأن كبح جماح إسرائيل تحت الضغط. سوف يتطلب إقناع إيران بأن الولايات المتحدة قادرة ومستعدة لمنع إسرائيل من تنفيذ عمليات عسكرية مستقبلية ضدها ما دامت طهران تلتزم بالشروط الأميركية، على أقل تقدير، رئيساً عازماً على استخدام النفوذ الأميركي على إسرائيل، ليس في ما يتعلق بأنشطتها تجاه إيران فحسب، بل أيضاً في عموم الشرق الأوسط.
إن تقديم ضمانات موثوقة لطهران يمثل مهمة شاقة بالنسبة لواشنطن، تزداد تعقيداً بسبب سلسلة طويلة من خيارات السياسة الخارجية الأميركية السابقة. لكنها ليست مهمة مستحيلة، ويمكن لإدارة ترامب إقناع إيران بأن التسوية ستكون مجدية.
استئناف الدبلوماسية
ستتطلب إعادة إشراك إيران دبلوماسياً مزيجاً من الضمانات العسكرية والاقتصادية التي تكون واضحة ولا يمكن التراجع عنها، بعضها تقدمه الولايات المتحدة بصورة أحادية، وبعضها الآخر بالتعاون مع دول أخرى. ويجب على ترامب أولاً أن يتعهد بكبح جماح إسرائيل. وسيكون ذلك تحدياً سياسياً صعباً، لا سيما أن ترامب سبق أن خضع مرتين على الأقل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وعلاوة على ذلك، من غير المرجح أن يسحب ترامب المساعدات الدفاعية خلال وقت ما تزال فيه إيران تشكل تهديداً لإسرائيل. ومع ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن توجه رسالة إلى إسرائيل (وإيران) بأنها لن تعيد تزويد إسرائيل ببعض القدرات الهجومية، مثل القنابل والصواريخ الدقيقة، في حال حاولت إسرائيل استئناف حربها الجوية ضد إيران أثناء المفاوضات أو أثناء التزام إيران بشروط الاتفاق الجديد. وهذا سيحد على الأقل من نطاق الغارات الجوية الإسرائيلية المستقبلية ومدتها.
ثانياً، يجب على ترامب وغيره من المسؤولين الأميركيين أن يؤكدوا بوضوح وثبات أنهم لا يسعون إلى تغيير النظام في إيران، وأن تركيزهم منصب فقط على البرنامج النووي الإيراني. لكن التصريحات الكلامية وحدها لن تكون كافية، لذا ينبغي على الولايات المتحدة أن تعزز أقوالها بخطوات ملموسة من خلال تعديلات في الوجود العسكري الأميركي بالمنطقة، تشير بوضوح إلى أن واشنطن لا تستعد لخوض حرب جديدة من أجل تغيير النظام في الشرق الأوسط. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة في المدى القريب سحب القوات الجوية والبحرية التي نشرتها في المنطقة خلال الأسابيع الأخيرة، وأن تعيد مع استقرار الأوضاع مستويات الجاهزية والتهديد في القواعد العسكرية الإقليمية إلى وضعها الطبيعي. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لواشنطن أن تعيد تأكيد نيتها سحب القوات من سورية والعراق، كمؤشر على أن الولايات المتحدة تعتزم مواصلة إعادة تموضعها الاستراتيجي عالمياً بعيداً عن الشرق الأوسط بمجرد انتهاء الأزمة الحالية. ويمكن إشراك شركاء الولايات المتحدة داخل المنطقة لتعزيز الرسالة التي تفيد بأن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران، من خلال رفضهم السماح للقوات الأميركية باستخدام أراضيهم أو مجالهم الجوي في عمليات تستهدف النظام الإيراني.
وأخيراً، ينبغي على إدارة ترامب تقديم تخفيف فوري للعقوبات بمجرد أن تتفق إيران والولايات المتحدة على إطار عام لأي اتفاق، حتى وإن لم يكن تفصيلياً. وهذا يتماشى مع تصريحات ترامب بأنه يأمل في رؤية إيران ناجحة ومزدهرة، كما أنه سيوفر لقادة إيران بعض الأدلة على أن واشنطن لا تسعى إلى إسقاط النظام. وفي الواقع، سيسهم توقيع الشركاء الأوروبيين على هذا التعهد في تعزيز صدقية أي التزام أميركي ويزيد من الفوائد التي يمكن أن يجنيها الإيرانيون من رفع العقوبات. وتجدر ملاحظة أن آثار رفع العقوبات يمكن أن تظهر بسرعة، فقد أتمت سورية أخيراً أول معاملة مصرفية باستخدام نظام "سويفت" بعد شهر واحد فقط من إعلان ترامب عن خططه لرفع العقوبات الأميركية.
وبينما يقدم ترامب هذه الضمانات الثلاثة، سيكون عليه أيضاً أن يتخلى عن سياسة الإنذارات القائمة على معادلة "إما الاتفاق أو إلقاء القنابل" التي ما يزال يوجهها إلى قادة إيران. مع تراجع البرنامج النووي الإيراني وتضرر البنية التحتية للصواريخ الباليستية بصورة كبيرة، لم تعد هناك حاجة ملحة إلى اتفاق فوري أو لعمل عسكري إضافي. يتمتع ترامب الآن برفاهية الوقت، وعليه أن يستغلها. وقد تبنى الرئيس شعار "السلام من خلال القوة"، ولذلك يترتب عليه أن يتذكر خلال الأيام والأسابيع المقبلة أن القوة لا تُقاس باستخدام السلاح فحسب، بل تقاس أيضاً بالقدرة على الامتناع عن استخدامه بصورة موثوقة.
*جينيفر كافانا: زميلة بارزة ومديرة التحليل العسكري في مؤسسة "أولويات الدفاع"، وأستاذة مساعدة في مركز الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون. روزماري كيلانيك: مديرة برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة "أولويات الدفاع". الترجمة لصحيفة "الإندبندنت".