عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Oct-2025

الخائف*إسماعيل الشريف

 الدستور

الرؤساء والجنرالات والوزراء لا يصنعون التاريخ بقدر ما تُحرّكهم قوى أكبر منهم - من رواية الحرب والسلام لتولستوي.
 
يرجع كثير من المؤرخين الفضلَ إلى الحجاج بن يوسف الثقفي في تثبيت حكم بني أمية، لكنّ ما إن استقرّت الدولة وتغيّرت الأولويات حتى صار الحجاج عبئًا عليها، إذ ارتبط اسمه بسفك الدماء، إلى أن تبرّأ منه سليمان بن عبد الملك علنًا قائلاً: لا أحب أن يُذكر الحجاج في مجلسي.
 
في عام 1996 وُضعت واحدة من أهمّ الاستراتيجيات التي هدفت إلى جعل الكيان القوةَ المهيمنةَ الوحيدة في المنطقة، وحملت عنوانA Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm   أنسب ترجمة لها: «الانفصالُ النظيف: استراتيجيةٌ جديدةٌ لتأمينِ المملكة». قُدِّمت هذه الدراسة إلى السياسي الشابّ الصاعد بقوة، نتن ياهو، ولم تكن لتنجح في وجود رابين الذي كان يؤمن بأن استمرار الكيان مرهونٌ بالسلام مع الفلسطينيين. فتمّت إزاحته، وكشفت نتائج التحقيق إخفاقات أمنية أدت الى اغتياله مما فتح المجال لظهور نظريات مؤامرة ادعت ان الاغتيال كان مرتبا،  وكان نتن ياهو من أبرز الوجوه السياسية التي اتُّهِمت بالتحريض أدين سياسياً دون أن تُطالب به محكمة جنائية.
 
حتى قبل أيام كان يُنظر إلى نتن ياهو بوصفه «الملكَ غير المتوَّج» للكيان، وتحيطُ به رواياتٌ ونبوءاتٌ توراتيةٌ تنسب إليه دورَ الممهّد لِقدومِ المسيّا  ولتحقيق هذه الرواياتِ والاستراتيجيات اتّخذت قرارات: منها التخلص من صدام حسين، وإشعالُ حروبٍ بالوكالة ضدّ أنظمة عربية عدّة، وإعادةُ رسم خريطةِ الشرق الأوسط، وتبديلُ شعار «السلام العادل» إلى شعار: «السلامُ مقابل السلام»، واعتبارُ «الحق» للكيان من البحر إلى النهر   وكلّ ذلك تبرره أيديولوجيا وخطط تتطلب القتل والترويع.
 
ولأنّ من يَقدِر على تنفيذ مثل هذه الأجندات يجب أن يتصف بصفاتٍ لا تعرفَ له رادعًا أخلاقيًا، فكان نتن ياهو السياسي الفاسد السادي والمتطرف ،  بطل هذا الدور. لكن مع توقّف دائرة العنف ووقفِ «الإبادة» بدأ وهجُ نتن ياهو يخفت؛ فقد أنجز جزءًا كبيرًا من مخططاته وربما بالغ في تنفيذها. العالمُ العربيُّ، المنقسمُ والضعيفُ، لم يعد يشكّل عائقًا وجوديًا للكيان الذي صارَ الفاعلَ الحاسمَ في الإقليم، فتبدو المرحلةُ المقبلةُ فترةَ هدوءٍ وبناءٍ على المكتسباتِ المترتِّبة، فيما يسعى الفاعلونُ إلى التملّصِ من مسؤوليةِ العنف عبر تحميلها لفردٍ واحدٍ: نتن ياهو.
 
تجدرُ الإشارةُ إلى أن ما حدث مع الولايات المتحدة يقدمُ نموذجًا لهذا المنعطف: إعلانُ «الحرب على الإرهاب» أدّى إلى احتلال العراق وإلى موجةِ سخطٍ واسعةٍ في العالمين العربيّ والإسلاميّ؛ فحمَلَت إدارةُ جورج بوش الابن تبعاتِ تلك الحقبة، ثم حاولت إدارةُ أوباما تصحيح المسارِ عبر خطابٍ رمزيٍّ في جامعةِ القاهرة. وقد يكونُ المنطقُ السياسيُّ نفسه قابلاً للتكرار في المشهد الصهيوني: ما بعد نتن ياهو قد يشهدُ حكومةً أقلَّ تطرفًا.
 
أعتقد أنّ نتن ياهو، يدركُ ذلك؛ فهو يصرّح هذه الأيام مرارًا بأنّه يخشى على سلامته وسلامة عائلته، ويُذكر أن هناك حادثتين موثّقتين استهدفتا منزله عام 2024، وحادثةً أخرى عام 2025 تتعلق بناشطةٍ مسنّةٍ وتدورُ حول مزاعمِ مؤامرة اغتيال. ولا يجوزُ تجاهلُ أنّ الأجواء داخل الكيان محتقنةٌ ومشابهةٌ إلى حدٍّ كبير لما كان سائداً قبل اغتيالِ رابين.
 
تحوّل نتن ياهو إلى عبءٍ استراتيجيٍّ على الغرب والولايات المتحدة؛ إذ أظهرت دراساتُ رأيٍ عامٍّ، منها دراسةٌ لمركز «بو» شملت أربعًا وعشرين دولة، أن صورةَ الكيان ونتن ياهو سلبيةٌ بدرجةٍ كبيرة. ومع تآكلِ ثقةِ الحلفاءِ به وازديادِ كراهيةِ الشعوبِ للكيان، وجد الغربُ نفسه مُضطرًا لكبحِ آلةِ العنف؛ فقد بدا أن استمرارها يُهدّد ما تبقّى من شرعيتها الأخلاقية.
 
كنتُ أحبُّ أن أختم المقالة بجملةٍ: «الجزاء من جنس العمل»، لكنّ لا جزاء يوازي جرمَ نتن ياهو. ومع ذلك فأنا على يقين أن نهايته لن تكون سعيدة، وأنه سيصبحُ كبشَ فداءٍ لما جرى في سنواتِ العنفِ هذه؛ وحينئذٍ سيُدركُ أنّه لم يكن سوى ترسٍ تافهٍ في ماكينةِ المصالح الدولية.