عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Oct-2025

لماذا لم تقهنا عن الحروب والكروب؟*رمزي الغزوي

 الدستور

ظهر أمس وفي الطريق إلى مقهى صغير لنحتفل بيوم القهوة العالمي لم يكتف صديقي الذي تمنى كان يتمنّى لو أن الأرض بهيئة قلب عاد مجددا وتمنى لو تسقط راءُ الحرب؛ فقلت له إني يا أيها الحالم إني لن أعي ما سيحدث إن تحقق مرادك، إلا إن تركتني أتخيل الأرض بهيئة فنجان يدور حول الشمس دون أن تنسكب منه رشفة.
 
رغم عدم محبتي أن نخصص لبعض الأشياء يوماً نحتفل به سنويا، كيوم الصداقة أو العمال أو المرأة أو حتى القلب، لأنني أخشى أننا نقترف هذا الفعل البروتوكولي لشعورنا أن تلك الأشياء آيلة للبهوت أو الخفوت، وأن اليوم الاحتفالي ما كان إلا ليهمز ذاكرتنا المهترئة، ويبث فيها شيئا من قمح الحياة..
 
لكني لا أملك عند القهوة إلا أن أحتفي مع المحتفين المحتفلين مرتين في اليوم أو أكثر، فهي محبوبتي السمراء الأولى، وقرينتي العابقة بندى المسرات، ويعجبني أن أذكر أن القهوة عُرفت للمرة الأولى في اليمن يوم كان سعيداً، ويضيفون أن راعياً اكتشفها بعد ملاحظة أن أغنامه تغدو نشطة بعد أكلها، وحين جربها وجد في نفسه شعورا لا يوصف من الزهزهة والبهجة الغامرة، ويقولون إنها سميت قهوة؛ لأنها تقهي عن الطعام، أي تجعل شاربها لا يشتهي شيئا غيرها، وهذا الاسم كما تعرفون كان يمنح للخمر القوية عند العرب، وفيما بعد، وحين حملوها إلى العالم في القرون الوسطى صارت تسمى في الغرب نبيذ العرب.
 
وأنا اكتشفتها في الرابعة من عمري بعد أن كنت أرعى قطعانا من الغيم من شباك يطل على جبل بعيد، وتحديدا قبل أن تضبطني أمي رحمها الله متلبساً بلعق بقايا الفناجين إثر مغادرة جاراتها. وأذكر كيف أخذتني إليها، ومسحت عن خاتم فمي الشاربين الزائفين المضحكين، ثم انهالت عليّ بالقبلات الصاخبات، داعية ربها أن أكبر لينبت لي شاربان يرقص فوقهما الصقر.
 
وحين صرت في الخامسة حفظت من أبي رحمه الله أبياتا ما زلت أنشدها بذات الحماس الطفولي، أنا المحبوبة السمراء، وأجلا في الفناجين، وعود الهند لي عطر، وذكري شاع في الصين. وبعدها صرت أرافقه إلى سهرات الأعراس، وأتحمّص غضباً وقهراً إذا ما تجاوزني صبّاب القهوة، ولم يسكب لي فنجاناً أهزّه بعد أن أروى كما يفعل الكبار.
 
العرب تسمي الماء والتمر بالأسودين، وفي عالمنا اليوم ثمة أسودان جديدان يحركانه أو يحرقانه؛ القهوة والنفط. ولربما أن صديقي لن يتفاجأ أبداً حين يعرف أن الأولى هي السلعة الثانية التي يتداولها البشر بعد النفط، وأن أكثر من ثلاثة مليارات فنجان تصنع منها يوميا، ولهذا يعجبني أن أنضم لحماسته وأقول لعالم مفعم بالويلات: ما دمنا نرتشف كل تلك القهوة، فلماذا لم تقهنا عن الحروب والكروب والشرور والغرور؟