عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Oct-2025

العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة.. محاضرة لـزهير توفيق

 الغد-عزيزة علي

 تناولت المحاضرة التي القاها أستاذ الفلسفة الدكتور زهير توفيق، بعنوان "التراث في الفكر العربي المعاصر"، إحدى القضايا الجوهرية في الفكر العربي المعاصر، وهي العلاقة الجدلية بين التراث والحداثة، وكيفية التعامل مع الإرث الفكري العربي والإسلامي في مواجهة تحديات العصر.
 
 
تناول توفيق في المحاضرة التي أقيمت في منتدى البيت العربي الثقافي، وادارها، أحمد أبو شاويش، منطق التراث ومكوناته، وأهمية العقل النقدي في قراءة التراث، وتجاوز الصراعات الأيديولوجية، كما عرض قراءات ومقاربات مختلفة للعقل العربي لدى مفكرين بارزين مثل الجابري، طه عبد الرحمن، وفهمي جدعان، في محاولة لتحديد مدى انسجام التراث مع الحداثة، وإمكان توليد نهضة فكرية تراعي تفاعلهما معًا.
وسعى المحاضر إلى تقديم رؤية نقدية تمكن من تأويل التراث والتفاعل معه بما يتيح للفكر العربي إعادة اكتشاف حضوره المعرفي، بعيدا عن الانغلاق الأيديولوجي أو التقليد الأعمى للغرب، مع الحفاظ على جدواه التاريخية ومعاصريه النوعية.
قال زهير توفيق إن إشكالية التراث والحداثة تمثّل إحدى أبرز قضايا الفكر العربي الحديث، إذ واجه العرب الغربَ، مصدر الحداثة، بوجهين متناقضين: الحداثة والتحديث من جهة، والاستعمار من جهة أخرى. وفي المقابل، حمل التراث بدوره وجهين متباينين؛ الأول أيديولوجي عاطفي يستدعي أمجاد الماضي لتعزيز الإرادة وتعويض الهزائم الراهنة، والثاني معرفي يسعى إلى استلهام القيم الفكرية والعلمية والفنية في التراث الحي، لدمجها في حداثة كونية تتجاوز الخصوصية الغربية، عبر إعادة إنتاج التراث وتحديثه وتبيئته.
ورأى المحاضر أن الإشكالية تكمن في أن التراث المطلوب للتعبئة الأيديولوجية يختلف عن التراث العقلي الضروري للحوار مع الحداثة؛ فالأول يسعى إلى القطيعة، بينما الثاني ينشد التفاعل. لافتا إلى أنه
وفي رأي المحاضر، انه لا قطيعة ولا نفيا متبادلاً بين التراث والتحديث، بل تواصل وتفاعل، بشرط أن يتم ذلك وفق العقل النقدي والعقلانية الموضوعية، لا وفق العقل الوضعي أو المستقيل.
وأضاف توفيق كيف نقرأ التراث ونتمثّله؟ وما علاقته بالحداثة أو التحديث؟ قائلا إنها أسئلة جوهرية في الفكر العربي المعاصر، تسعى إلى فهم كيفية التوفيق بين الماضي المكون للهوية والحاضر المتحول بروح العصر. فهل يمكن بلورة مقاربة إجرائية أو نظرية تفسيرية تتيح صيغة توافقية تجمع بين التراث والحداثة، وتوظفهما معا في خدمة الواقع المعيش؟
وأوضح توفيق أن الحداثة تُفهم هنا بوصفها روح المعاصرة واستجابة لتحديات الزمن الراهن، في حين يُنظر إلى التراث باعتباره المخزون الفكري العربي الإسلامي، بغضّ النظر عن بداياته ونهاياته الزمنية، وهي مسألة خلافية بحد ذاتها. أما الماضوية أو السلفية فتعني منهجًا ورؤية شمولية للعالم، تؤمن بأن الماضي يمتلك وحده صلاحية النهوض والتغيير، وتعدّه المعيار الوحيد للحقيقة.
وأوضح المحاضر أن التراث، في بعديه التاريخي والمعياري، الواقعي أو المتخيَّل، يتحول إلى أداة لقراءة الحاضر واستشراف المستقبل، وتبدو هذه التساؤلات إعادةً لإنتاج أفكارٍ نهضوية تجاوزها الزمن، بعدما تحولت من قضية معرفية إلى إشكالية أيديولوجية فقدت مردودها العلمي، حتى عدّها البعض إشكالية زائفة لا تحمل معنى حقيقيًا أو أثرا معرفيا في الحاضر والمستقبل.
ورأى توفيق أن الخطابات التي تناولتها سابقا وصلت بأيديولوجياتها إلى طريق مسدود، فاختارت إما التراجع أو تجاهل الاستحقاق المعرفي المطلوب بتجديد النظر والمناهج. وهكذا وجدت نفسها أمام خيارين: إما الاعتراف بقصور المنهج بشجاعة فكرية تتيح إعادة المقاربة من زاوية جديدة، أو الإصرار على نفي المعنى والاستمرار في الدوران داخل النسق ذاته الذي أثبت عجزه.
ورأى المحاضر أنه يصعب تصور التراث والحداثة كطرفين منفصلين، فكل حديث عن أحدهما يستدعي الآخر. وغالبًا ما يصوّر الخطاب السلفي الحداثة بصورة سلبية تربطها بالتغريب والاستعمار والعلمانية، لتبرير رفضها بحجة الحفاظ على الأصالة والهوية، متجاهلًا تعدد تجاربها وتعقيدها التاريخي.
وقال توفيق إن الحداثة الغربية تطرح نفسها معيارا عالميا رغم دخول الغرب مرحلة ما بعد الحداثة، لكن التراث يحتوي على عناصر حية قادرة على التعايش معها، في حين أن الحداثة في الشرق والغرب تستمد أيضا جذورها من التراث القديم، عقلانيا وصوفيا، ما يظهر التداخل الدائم بين الطرفين.
تحدث توفيق عن منطق التراث وكيفية إنتاجه لمضمونه، من علوم وضعية ومقاربات لغوية وتفسيرات دينية في الإسلام التاريخي خارج إطار الوحي، وعلاقته بالحداثة والتحديث. رغم أن المضمون تجاوزه الزمن، إلا أن منهجه وعقله المنتج للتراث يظل جوهر الإشكالية ويحتاج إلى النقد والتفكيك. وتتمثل مهمة الإحياء السلبي للتراث في نقد عقل النص أو المعاقلة كما يسميها "طه عبد الرحمن"، إذ أنتج التراث ضمن شروطه وإطاره الخاص.
تساءل المحاضر: هل كانت المعاقلة صحيحة؟ وهل كانت شروط فاعليتها معيارية تسمح بتشكيل صور نمطية سلبية أو إيجابية؟ فإذا كان التراث المنتج مطابقًا لمثاله ومعتمدًا على شروط منهجية، فإنه يمثل نموذجا يحقق فروض الحاضر التاريخية من زمن التراث إلى زمن الحداثة. أما إذا كان مفارقا لمثاله وغير معيارِي، فإن الجانب المظلم والمسكوت عنه أكبر من المنجز المكشوف، وما أُنتج غالبًا كان لإخفاء حضوره وتكريس غيابه.
ويواصل المحاضر تساؤله موضحًا أن هذا يمثل تحديًا معرفيًا للبحث الحداثي، الذي يجب أن يتجاوز الظاهر، ويغوص في المخطوطات وحفريات المعرفة لكشف أسرار التراث وأبعاده، والبحث عن الحلقات المفقودة والصفحات البيضاء، دون الاقتصار على ما هو ظاهر. كما يؤكد أن هذا لا يعني التوافق مع موقف محمد عمارة الذي يقصر إحياء التراث الميت على النخب الأكاديمية بعيدًا عن الجماهير.
ووفق توفيق؛ فإن خيارات المثقف العربي في مرحلة المد القومي واليساري كانت أيديولوجية بامتياز. فقد شعرت تلك القوى بأنها ملزمة بخوض معركة فكرية مع الطبقات التقليدية وأفكارها المحافظة، إذ كان بناء الجديد يستلزم هدم القديم.
وأشار إلى أن مفكري اليسار لجأوا إلى التراث باحثين عن أفكار وشخصيات تقدمية أو يسارية لتوظيفها في معركة المصير، وغالبًا ما ركزوا على الهامشي والخاص والمعارض، مثل المذاهب والحركات الدينية والسياسية المعارضة، لإثبات أن التراث ليس كليًا متجانسًا ولا يشكل بنية ميتافيزيقية مضادة للتحرر.
ومن هذا المنطلق، استُرجعت نزعات تقدمية وحداثية ومادية في التراث، واستُعيد جزء من الإسلام التاريخي من سيطرة القوى الرجعية، مما منح اليسار إحساسًا بالأصالة والانتماء التاريخي وطرد تهمة التغريب، مع تعويض رموزه ومرجعياته الغربية.
أما العقلانية النقدية المنحازة ضمنيًا للحداثة، فقد افترضت نزاهتها الموضوعية وتجردها من الأيديولوجيا، متعاملة مع التراث كـ موضوع معرفي ومعطى تاريخي يمتلك فاعلية في التقدم أو التأخر حسب طبيعته. ويطرح هنا السؤال: هل يوجد انسجام وتكامل في التراث يسمح بتحويله إلى وحدة تحليلية واحدة، أم أن مكوناته متنافرة ومتداخلة بشكل تلفيقي؟
يتميز التراث بوحدته البنيوية وانقسامه الماهوي، ما دفع الجابري لتقسيم العقل العربي إلى عقل عرفاني وبرهاني وبياني. وقد اعترض عليه طه عبد الرحمن، فانطلق من فرضية تكامل التراث ووحدته، مع حذف العناصر المشاغبة خارج السياق التداولي الإسلامي. إذن، فإن المنظورية، بمعناها في علم اجتماع المعرفة، هي التي تحدد طبيعة الموضوع التراثي وتجعل منه مادة قابلة للتأويل والتفاعل مع الحداثة، لا للتنافر معها.
وعلى الرغم من تصوير التراث أحيانًا كأيديولوجيا ثورية أو رجعية، فإنه في الحقيقة ليس أيًا منهما. فلا توجد في التاريخ وحدة مجتمعية متجانسة أو توافق كامل بين المخيال الحداثوي والتراثي، ولا تسوية تتجاوز الطبقات والصراعات الأيديولوجية لإنتاج مجتمعات متصالحة إلا في اليوتوبيا.
تحدث المحاضر عن منطق الوصل والقطع، متسائلًا: هل يمكن من خلاله تحقيق نهضة فكرية وخلق تركيب جديد يجمع بين التراث والحداثة، أم هل يمكن توليد حداثة جديدة من تراث الحداثة وحده؟
ويشير إلى أنه لا يوجد تراث متقدم أو متخلف عن عصره؛ فالتراث الأصيل هو دائمًا معاصر لعصره، كما أن الحداثة أصيلة لأنها مطابقة لتاريخيتها وإنتاجها. ومن ثم، يقترح البحث في التراث عن حداثة كامنة ومقارنتها مع تراث الحداثة الذي تجاوزته ما بعد الحداثة، لتحقيق نفي النفي أو الرفع الهيغلي للتراث، بما يشمل الإبقاء والإمحاء في الوقت ذاته.
وقال توفيق إن التراث أصيل لأنه معاصر لعصره أو مطابق لتاريخية إنتاجه، ويبدو لنا اليوم معاصرًا لأنه كان أصيلاً، أي جديدًا في نظر الأسلاف وفق رؤيتهم الكلية للوجود.
وخلص المحاضر إلى التساؤل: لماذا لا نبحث في تراثنا عن حداثة كامنة، ونطابقها مع تراث الحداثة الذي تجاوزته أو خضعت له ما بعد الحداثة للمساءلة، لتحقيق نفي النفي أو الرفع الهيغلي للتراث الذي يجمع بين الإبقاء والإمحاء في الوقت ذاته؟