ما أكبر الفكرة.. ما أصغر الدولة*جميل النمري
الراي
اول امس كان يوما تاريخيا لفلسطين بانعقاد مؤتمر حل الدولتين وحضور عدد وافر من قادة الدول في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وشهد المؤتمر نفسه اعلانات اعتراف جديدة بدولة فلسطين وسبقه تقاطر الاعترافات من دول رئيسية في مقدمتها بريطانيا صاحبة وعد بلفور والقابلة التي ولّدت اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. وسيتجاوز عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين 150 دولة بينها اربعة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس. وطوال الأسابيع والشهور الماضية كرس جلالة الملك جهدا استثنائيا مستثمرا كل ما يتمتع به من مصداقية لإقناع قادة الدول ان هذه هي الخطوة الحاسمة لقلب اتجاه الأحداث لمصلحة السلام ومستقبل جميع الدول بما في ذلك اسرائيل التي تدفعها اجندة اليمين المتطرف الى منحدر خطير.
اسرائيل تنهزم سياسيا على مستوى العالم وانتصاراتها العسكرية تتحول الى هزائم سياسية وهذا ناتج عن خصوصية الصراع الفريد حيث لم يعد التفوق العسكري يحقق اي هدف سياسي نهائي ودائم. والشاهد على ذلك حرب غزة والنكبة الجديدة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني فعلى مدار عامين دكّ الاحتلال كل شبر في غزة وحولها الى ركام واستمر يقتل ويحاصر ويجوّع ويهجر السكان من مكان الى آخر داخل القطاع دون نتيجة. لأن سراب النصر الكامل الذي يريده نتنياهو لا وجود له، فما الجديد في اعادة احتلال مدينة غزة عسكريا أو أي مكان آخر وحتى لو تم استعادة اي عدد من الاسرى احياء أو امواتا باتفاق او عنوة فكل شيء يعود الى نقطة الصفر. شعب تحت الاحتلال ينشد الحرية والاستقلال وقد تعلم الدرس ولن يدفعه شيء للهجرة خارج بلده ناهيك ان الجوار لن يقبل ابدا مهما كان الثمن.
حرب اسرائيل اليوم هدفها ازالة فكرة الدولة الفلسطينية نهائيا من الوجود والسبيل الوحيد هو سحق الشعب الفلسطيني نفسه بلا اي رادع انساني او اخلاقي وهذا ما روّع الجميع لأن اي عقل متزن في القرن الحادي والعشرين لا يقبل هذه الاجندة الفاشية الشوفينية الاجرامية.
في هذا الوقت توصل قادة العالم الى القرار الفاصل بإنقاذ مبدأ حل الدولتين المعتمد دوليا بالاعتراف سلفا رسميا وقانونيا بدولة فلسطين. وقد كان النهج السابق في الغرب هو تأييد حل الدولتين من حيث المبدأ لكن ترك الاتفاق عليه للتفاوض المباشر بين الطرفين.
استمر الغرب بدعم اسرائيل رغم تعنتها بحجة ان ضمان امنها وتفوقها يشجعها على تقديم تنازلات. وفي 7 اكتوبر 2023 استعرض الغرب هذا الدعم بهبّة عاتية ردا على هجوم حماس فاستثمر اليمين الفاشي الاسرائيلي المناسبة للقضاء أخيرا ونهائيا على فكرة الدولة الفلسطينية بالحرب على شعب هذه الدولة المحتملة اي بالتقتيل والتدمير والتبديد والتجويع والتهجير متمردا على كل الجهود والوساطات لإنهاء هذه الحرب.
وهكذا تقرر التصدّي لهذه الاجندة واستباقها بالاعتراف سلفا بالدولة الفلسطينية. والاعتراف المسبق بدولة فلسطين يحمل رسالة تقول لاسرائيل عبثا تواصلون حربكم نحن نعترف بدولة الفلسطينيين على ارضهم بكل الاحوال ومهما فعلتم فأختصروا حربكم العبثية لأن وجود دولة فلسطينية هو الوضع النهائي الوحيد الممكن والمقبول.
لعل كثيرين لا يعولون على هذا الاعتراف باعتبار انه موقف نظري لا قيمة له على الارض لكن يجب الانتباه كثيرا لقيمته الاستراتيجية الحاسمة من زاوية المسار التاريخي للصراع ومآلاته. لقد انتصرت اسرائيل عسكريا في جميع الحروب لكن جميع الحروب لم تحسم ولن تحسم الصراع، فالأمر لا يتعلق بوجود اسرائيل الذي اصبح مكفولا ومضمونا بل بوجود الطرف الآخر أي الشعب الفلسطيني الذي لن تزيله اي حرب من الوجود. واجندة اليمين المتطرف تشهر صراحة هذا الهدف المستحيل وتركب رأسها وتواصل اجرامها والعالم يتابع المشهد بغضب وسخط يتأجج اكثر كل يوم. وقد تجاوز الأمر السياسة التي تعبر عن نفسها في المظاهرات والمسيرات التي تعمّ العواصم الى كل مناسبة يتواجد الاسرائيليون فيها.
تصوروا ان ملاكما ايرلنديا بعد ان اطاح بخصمه الاسرائيلي في الحلبه نزل عليه بلكمات متتالية وهو يصرخ في وجهه free free palastine ويتم اعلان فوزه وهو يلتف بالعلم الفلسطيني وسط هتافات الجمهور بالحرية لفلسطين. لقد وصل انكشاف اسرائيل والنبذ الذي تلقاه في العالم الى مستويات غير مسبوقة وانحسرت كليا اسطورة "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، والجيش "الأكثر اخلاقية" ليصبح الجلاد الأكثر قذارة وحقارة. واصبح التضامن مع غزة وفلسطين هو المقياس الأكثر سموا للقيم والأخلاق والضمير.
ما اكبر الفكرة .. ما اصغر الدولة - كما قال محمود درويش في ملحمته الشعرية، نعم الفكرة، فكرة الدولة اكبر كثيرا من كينونتها المادية. فالحق الفلسطيني اليوم يكثف معاني العدالة والانسانية و الضمير، والاعتراف بدولة فلسطين يعيد الاعتبار للرواية الفلسطينية عن الوطن المسلوب والارض والتاريخ والقرى والبيوت والعائلات. وتسترجع الانسانية بهذا الاعتراف تاريخا لا يني يعذب ضميرها عن شعوب وقبائل ابيدت في اوطانها وفات الوقت على استدراكها لكن يوجد جريمة اليوم من نفس الطراز ما زال ممكنا استدراكها جريمة ابادة وتبديد شعب فلسطين التي يتابعها العالم اليوم صوتا وصورة في بث حي ومباشر. الاعتراف بدولة فلسطين لن يعيد للفلسطينيين ما فقدوه بل ينقذ ما تبقى وتريد الفاشية الصهيونية افقادهم اياه .. هويتهم الوطنية المتأججة ووجودهم المادي في وطنهم. الهوية والوجود المفضيان حتما الى الحرية والاستقلال.