من الدرع العربي إلى درع البلطيق.. خرائط الصراع المشتعلة*د.عبدالله سرور الزعبي
الغد
حين نستخدم مصطلح الدرع العربي أو درع البلطيق، فلا نقصد استخدام المعنى الجيولوجي المرتبط بتكتونية الأرض والصخور الغرانيتية القديمة، بل نتحدث عن درعين سياسيين وأمنيين يرمزان إلى خطوط التوتر والمواجهة في منطقتين متباعدتين جغرافيًا، لكنهما متصلتان جيوسياسياً وإستراتيجيًا، الأول في قلب الشرق الأوسط وحول البحر الأحمر والخليج العربي، حيث تختنق الممرات المائية بالصراعات، والثاني في شمال أوروبا عند بحر البلطيق، الذي يغلي باحتمالات مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف الناتو، تتداخل خطوط النار وكأنها جزء من صفقة كبرى يعاد رسمها خلف الأبواب المغلقة.
في هذه اللوحة المزدوجة، تتبدى ملامح صراع متعدد المستويات، تتقاطع فيه طموحات القوى الكبرى مع هواجس الدول الإقليمية، كل تحرك في الخليج يترك صداه في البلطيق، وكل مناورة في الشمال تعيد رسم الحسابات في الجنوب. في هذه الرقعة، تختبر القوى الكبرى حدودها، بينما تُترك الدول الصغيرة أمام سؤال مصيري، كيف تحمي نفسها من الانزلاق إلى لعبة ليست من صناعتها؟
المشهد العربي حول البحر الأحمر ومنطقة الخليج العربي، وصولاُ إلى فلسطين، درع هش أمام العاصفة ويزداد احتقانًا، فالملاحة في البحر الأحمر أصبحت هدفًا متكررًا للهجمات والتحرشات العسكرية، مما يهدد شريان التجارة العالمي، والخليج العربي يترقب مواجهة ارتفعت احتمالية حدوثها من جديد بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، حيث يكفي أي خطأ تكتيكي صغير ليدفع المنطقة إلى حرب كبرى.
السياسة الأميركية والإسرائيلية تتجه إلى إبقاء إيران تحت ضغط دائم، مزيج من العقوبات، الضربات المحدودة، واستهداف أذرعها الإقليمية. لكن الخطر أن يتحول هذا الضغط إلى مواجهة شاملة كنتيجة لاي خطأ في الحسابات، تضع الخليج كله في قلب النيران، ويشعل المنطقة برمتها.
دول الخليج تجد نفسها في معادلة قاسية، فهي تعتمد على التحالف الأميركي، لكنها تعلم أن أي حرب ستجعل القواعد العسكرية فيها، ومنشآتها النفطية هدفًا مباشرًا، لأي رد إيراني. المخاطر هنا لا تتوقف عند حدود الأمن العسكري، بل تمتد إلى الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي. وهنا تكمن المعضلة بين الأمن والاقتصاد، بين الحماية والتحوّل إلى ساحة مواجهة.
إن المبادرة الأميركية (مبادرة الرئيس ترامب) الأخيرة لغزة، لا يمكن فهمها بمعزل عن التوازنات الإقليمية والدولية. فإسرائيل، تسعى لتهدئة طويلة المدى في غزة دون تقديم تنازلات سياسية، مرتبطة بحق تقرير المصير، حتى تتفرغ لترسيخ سيطرتها في الضفة الغربية، ونقل المهمات إلى جهات أخرى لا تتحمل تبعاتها. ولكي تتفرغ أيضاً إلى الملف الإيراني الذي أصبح مقلقاً لدرجة تعتقد أنه يهددها وجودياً.
بينما في أقصى شمال أوروبا، تشتعل جبهة أخرى لا تقل توترًا، مناورات عسكرية روسية مكثفة، وطائرات مسيّرة تختبر الدفاعات الأوروبية، وخطاب متصاعد بين موسكو ودول البلطيق، لا بل الدول الناتو، ولهجة التصعيد الأميركية الأخيرة، وانتشار الغواصات النووية في بحار الشمال.
هنا أيضًا، لا نتحدث عن درع جغرافي بل عن درع أمني إستراتيجي للناتو، هدفه حماية أوروبا الشرقية من تمدد روسيا. غير أن بعض التطورات، قد تطرح فرضية وجود تفاهمات غير معلنة بين واشنطن وموسكو منذ لقاء ألاسكا بين ترامب وبوتين، تقوم على تقاسم النفوذ، روسيا تثبّت حضورها في البلطيق والقطب الشمالي، مقابل تسهيلات لأميركا، قد تصل إلى تمهيد الطريق لصفقات في الشرق الأوسط، وصفقة غرينلاند، التي لطالما سعى ترامب للسيطرة عليها كمدخل للنفوذ القطبي.
إذا صحّت هذه القراءة، فإن البلطيق ليس سوى ورقة مساومة في لعبة كبرى، بينما تتحول أوروبا إلى مجرد ساحة تفاوض بين القوى العظمى.
الاتحاد الأوروبي يعيش مأزقًا حقيقياً، بين الارتهان والارتباك، فهو عاجز عن خوض مواجهة مباشرة مع روسيا، وفي الوقت نفسه غير قادر على بناء مظلة دفاعية مستقلة عن الولايات المتحدة.
الطائرات الروسية المسيّرة التي تخترق الأجواء الأوروبية لم تعد مجرد استفزاز، بل رسائل ضغط تكشف هشاشة موقف أوروبا أمام أي تصعيد. وهنا يظهر سؤال جوهري، هل ستبقى أوروبا مجرد تابع للقرار الأميركي، أم ستجد في هذه التهديدات دافعًا لبناء استقلال إستراتيجي طال انتظاره ومهما كلفها الثمن؟
أوروبا اليوم تبحث عن إستراتيجية دفاعية مستقلة، لكنها لم تزل عاجزة عن تجاوز التناقضات الداخلية، وهو ما يجعلها الحلقة الأضعف في أي مواجهة محتملة في الشمال. وهل ما يجري في ساحة البلطيق الأوروبية من توسع في التهديدات، وما قد يحدث في القوقاز، والسواحل الغربية للبحر الأسود (مولدوفا)، لإشغال روسيا عما سيجري في الساحة الإيرانية مثلاً؟
يبقى السؤال الأهم في مواجهات البلطيق، هل ستكون روسيا نمرا من ورق كما وصفت مؤخراً، أم أنها ستثبت بأنها الدب الروسي المعروف عبر التاريخ؟
الصين، في وضع المراقب والمترقب الذكي، وبصمت ودهاء. فهي في الخليج، لا تريد حربًا تهدد وارداتها النفطية، وفي البلطيق، ترى أن استنزاف روسيا والغرب يصب في مصلحتها، لأنها تواصل تمددها الاقتصادي والسياسي بعيدًا عن لأضواء المواجهة المباشرة، إلا أن التوترات المتزايدة في بحر الصين وتايوان قد يشغلها عن الكثير من الملفات الأخرى ومنها الملف الإيراني.
إلا أن الصين تعرف أن الوقت يعمل لصالحها، ولهذا فهي تراهن على إرهاق الآخرين قبل أن تبسط نفوذها بخطوات محسوبة، وتفرض نفسها كقوة أولى عالميًا.
الأردن، في موقع شديد الحساسية، وبقيادة الملك يسير بطريق التوازن الدقيق في زمن الاضطراب، حيث من الشرق، والبحر الأحمر، التوترات تتزايد، وتهدد أمن الطاقة والاقتصاد. ومن الشمال، سورية تمر في حالة مخاض للتقاطعات الجيوسياسية، ومن الغرب، التصعيد الإسرائيلي في الضفة وغزة يفتح الباب أمام مخاطر مباشرة على أمن الأردن، أن أي انفجار في الساحة الفلسطينية، بفعل التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، لن يبقى محصورًا خلف النهر، بل سينعكس فورًا على استقراره الداخلي، ويعرض الأردن لمزيد من الضغوط السياسية الداخلية والخارجية. التهديد الإسرائيلي قد يتصاعد، عبر ضغوط تتعلق بالوصاية على القدس، أو من خلال أي تصعيد غير محسوب. الأردن، بالنسبة له، أن أي مساس بالقضية الفلسطينية أو تكريس للانقسام سينعكس عليه ديموغرافيًا وسياسيًا، ويخشى أن تتحول غزة (صاحبة الملف المؤجل أو المنطقة المستعصية، ويتم إدارة ملفها بالمسكنات بدل الحلول الجذرية) إلى مدخل لفرض حلول على حساب الضفة وملف اللاجئين، ما يفتح بابا أمام تهديد الأمن الوطني.
الأردن يجد نفسه بين ضغوط إسرائيلية متزايدة، وتحالفات غربية وخليجية لا يمكنه الاستغناء عنها، ما يفرض عليه معادلة دقيقة لحماية مصالحه.
من الدرع العربي إلى درع البلطيق، نحن أمام عالم يعيش مرحلة جديدة من المواجهات الباردة والساخنة، ويتحرك بخطوط متوازية نحو صدامات جديدة، حيث تتقاطع المصالح الكبرى، وتختلط التحالفات بالصفقات، وتتشابك الأوراق بين الجنوب والشمال. غير أن ما يحدد مستقبل الدول الصغيرة ليس حجم قوتها العسكرية، بل قدرتها على المناورة الذكية وحسن إدارة المخاطر. هذا ما يشكّل جوهر الطريق الأردني بقيادة الملك لحماية المصالح الوطنية والخروج بأقل الأضرار.
الأردن، بقيادة الملك، يسعى للمحافظة على استقراره وسط لعبة أمم تتجاوز حجمه وحدوده، ورغم سياسة الحياد النشط، فإن الامر يتطلب تحصين الداخل، وتوظيف الموقع الجيوسياسي كجسر للحوار لا كساحة للحرب. ففي زمن التصدعات الكبرى، النجاة ليست للأقوى فحسب، بل للأكثر حكمة ومرونة.