الغد
أطاحت همجية إسرائيل في حرب غزة بالسردية الأخلاقية التي حمت إسرائيل طويلًا في الوعي الغربي؛ إذ إن مشاهد الإبادة والتدمير الواسع كسرت قدرة الخطاب الرسمي والإعلامي على تبرير العنف بوصفه “دفاعًا عن النفس”. في الجامعات والحركات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني برز سؤال العدالة قبل سؤال التحالف، فتكوّنت فجوة متنامية بين رأي عام متعاطف مع الفلسطينيين وحكومات متمسكة بتحالفاتها التقليدية مع تل أبيب.
في العالم العربي، كان أثر الحرب أعمق؛ إذ كشفت بوضوح الدور البنيوي للولايات المتحدة كراعٍ مباشر للمشروع الصهيوني، ليس كوسيط أو “ضامن استقرار”. الدعم العسكري اللامحدود والفيتو الدبلوماسي المتكرر أعادا تذكير العواصم العربية بأن أمن إسرائيل يتقدم على أي شراكة أخرى، وأن واشنطن لا تتردد في التضحية بأي نظام عربي إذا تعارض موقعه مع هذه الأولوية. من هنا بدأت مراجعة هادئة لفكرة “الحليف الأوحد” اميركا، التي حكمت السياسات العربية لعقود.
يتزامن هذا كله مع تحوّل دولي أوسع؛ فصعود الصين وتنامي وزن قوى شرقية أخرى وتكتلات مثل بريكس يقلّص قدرة واشنطن على فرض الإيقاع القديم. هذا لا يعني استقلالًا عربيًا منجزًا، لكنه يفتح هامشًا أوسع للمناورة عبر تنويع الشراكات والتمويل والتكنولوجيا، بدل الارتهان لمحور واحد يتحكم بشروط اللعبة.
المقارنة بين مسار الانفتاح شرقًا والعلاقة التقليدية مع الولايات المتحدة تكشف الفارق البنيوي: الشراكات الشرقية تُبنى أساسًا على المصالح الاقتصادية والتقنية وبحد أدنى من الاشتراطات السياسية، بينما ظلت العلاقة مع واشنطن محكومةً بمعادلة أمنية غير متكافئة تُدرج المطالب العربية ضمن إطار تابع لأولويات إسرائيل. لذلك يبدو الانفتاح شرقًا محاولة لإعادة توزيع الوزن النسبي داخل شبكة العلاقات، لا انقلابًا أيديولوجيًا على الغرب.
عمليًا، تجلّى ذلك في تعميق التقارب السعودي مع الصين وباكستان، وفي انضمام دول عربية مثل مصر إلى بريكس، وفي جولات دبلوماسية فاعلة، مثل زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني لعدد من الدول الآسيوية بهدف تعزيز التعاون في مجالات الغذاء والزراعة والتكنولوجيا وفتح مسارات تمويل وإنتاج بديلة. غير أن تحويل هذا الانفتاح إلى مكاسب ملموسة يظل مشروطًا بقدرة الدول العربية على تحديث مؤسساتها، وتحسين بيئة الأعمال، وربط الاتفاقيات بمشاريع حقيقية في الداخل لا بالاكتفاء بالرمزية السياسية.
لن يكون الانفتاح شرقًا طريقا خاليًا من الضغوط والعقبات؛ اذ ستسعى لولايات المتحدة إلى ضبط سقفه وربطه وفرض خطوطها الحمراء، لكن مع تراجع قدرتها على الهيمنة المنفردة على الإقليم، تظهر أمام العرب فرصة نادرة لإعادة هندسة موقعهم في النظام الدولي. التحدي ليس في إعلان شرقٍ مقابل غرب، بل في بناء سياسة عربية عقلانية تستثمر التعدد القطبي لتقليل التبعية، وتحوّل الانفتاح إلى رافعة لاستقلال تدريجي، لا مجرد استبدال تبعية بأخرى، وان غدا لصانعة قريب جنابك