الدستور
كاد الفقر أن يكون كفرًا حديث.
تشير الدراسات إلى ارتفاعٍ هائل في معدّلات السرقة من المتاجر في الولايات المتحدة؛ إذ زادت بنسبة 93% منذ عام 2019، وتضاعفت قيمة البضائع المسروقة وفقًا لتقارير الاتحاد الوطني للبيع بالتجزئة. كما أفاد مجلس العدالة الجنائية بأنّ معدلات السرقة في المدن ارتفعت بنسبة 24% مقارنة بالعام السابق.
يعتمد نحو 42 مليون أمريكي يشكّل الأطفال ما يقارب 43% منهم على برنامج المساعدات الغذائية المعروف بـ«قسائم الطعام»، أي ما يعادل 22 مليون عائلة تقريبًا. غير أنّ مخصصات هذا البرنامج تتناقص عامًا بعد عام؛ فقد بلغت في عام 2022 نحو 230 دولارًا للفرد، ثم انخفضت في عام 2023 إلى 185 دولارًا فقط، وسُجّلت تخفيضات أكبر في بعض الولايات مثل نيويورك وفلوريدا.
على «يوتيوب» يمكن أن تشاهد مقاطع تكاد تظنّها مشاهد من أحد أفلام هوليوود؛ رجالُ الأمن ينتشرون قرب المتاجر، وحفاضاتُ الأطفال وعلبُ الحليب ومعاجين الأسنان تُعرض خلف الزجاج، بل حتى الفواكهُ والخضار لم تسلم من الأقفال والحماية.
وتفسير ذلك بسيطٌ للغاية، عبّر عنه الصحابي أبو ذرّ الغفاري قبل أكثر من ألفٍ وأربعمئة عام حين قال: عجبتُ لمن لا يجد القوتَ في بيته، كيف لا يخرج على الناسِ شاهِرًا سيفه!
وهذا تمامًا ما يفعله البشر حين يُجبَرون على المفاضلة بين السرقة والجوع؛ إنهم يسرقون لا بدافع الإجرام، بل بدافع البقاء.
ومع ذلك، وفي ظل هذا المشهد المقلق، ثمّة جهاتٌ تستفيد من الفوضى بل وتشجّعها. ففي الولايات المتحدة يُصار حاليًا إلى خصخصة قطاع السجون، ما يعني أن ازدياد الجرائم يعني مزيدًا من السجناء، وبالتالي مزيدًا من الأرباح.
وفي الوقت الذي يجوع فيه أكثر من 42 مليون أمريكي، تنفق الولايات المتحدة مليارات الدولارات على الكيان الصهيوني لارتكاب أكبر إبادة جماعية في التاريخ الحديث، فيما ينعم المستوطنون بالرفاهية داخل فلسطين المحتلة، ويكابد المواطن الأمريكي الفقر والجوع.
فقد تلقّى الكيان خلال «طوفان الأقصى» نحو 22 مليار دولار من المساعدات الأمريكية، تضاف إلى أكثر من ثلاثمئة مليار دولار تلقّاها منذ قيامه. وفي الوقت الذي تُوضَع فيه علب حليب الأطفال داخل الأقفاص لحمايتها من السرقة، تُفتح مستودعات الأسلحة على مصاريعها لتزويد الكيان الصهيوني بما يشاء.
إنّ هذا السخاء المفرط تجاه الكيان الصهيوني أدّى إلى إفقار الشعب الأمريكي، وأصبح خطرًا حقيقيًا على السلم الاجتماعي في الولايات المتحدة، وانهيارًا للعقد الاجتماعي ولما يُعرف بـ«الحلم الأمريكي». ففي الوقت الذي يجوع فيه ملايين الأمريكيين، يعمل المجمّع الصناعي العسكري وشركات التكنولوجيا على مدار الساعة لدعم الإبادة، لتتدفّق الأموال إلى جيوب 1% من الأمريكيين الذين يملكون أكثر من 50% مما تملكه الطبقات الأدنى مجتمعة.
ويمتلك هؤلاء المليارديرات ما يزيد على خمسة تريليونات دولار، وهو رقم يعادل الناتج المحلي لأكبر اقتصادات العالم مثل اليابان وألمانيا، في حين يعيش 60% من الشعب الأمريكي من راتبٍ إلى آخر، دون أيّ مدّخراتٍ لمواجهة الطوارئ. أما المديرون التنفيذيون في ذلك المجمّع الصناعي، فيتقاضون أجورًا تفوق أجور الموظفين العاديين بنحو 350 ضعفًا.
لقد بلغ التفاوت الطبقي في الولايات المتحدة مستوياتٍ غير مسبوقة، حتى إنّ بعض الاقتصاديين يصفون الاقتصاد الأمريكي بأنه «نظام إقطاعي جديد بثوبٍ رأسمالي»، فيما يسخر آخرون واصفين إياها بأنها بلدٌ غنيٌّ يسكنه الفقراء.
قد تطارد لعنة غزة الولاياتَ المتحدة؛ فما قدّمته من دعمٍ غير محدودٍ للكيان على حساب مواطنيها يحمل في طيّاته بذورَ انهيار الرأسمالية من داخلها. فالرأسمالية قائمةٌ على الثقة الاجتماعية التي تتيح الاستهلاك والإنتاج والائتمان، لكن حين تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتتحوّل معركة الإنسان إلى صراعٍ من أجل البقاء، يفقد النظام توازنه: يصبح العامل جائعًا أو مديونًا بدل أن يكون مستهلكًا، ويُدفع الفقير إلى الجريمة في منظومةٍ صُمّمت لخدمة الأغنياء، فتتكدّس الثروات في أيدي القلّة، فيما يجوع المجتمع بأسره.
هذه المعادلة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد؛ فالأجيال القادمة لن تقبل بأن تواصل دولتهم دعمَ الكيان على حسابهم، وحينها ستتحوّل إسرائيل من حليفٍ استراتيجي إلى عبءٍ ثقيلٍ على الولايات المتحدة.