الدستور
شكلت معركة السابع من أكتوبر 2023، المحطة الرابعة في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وانجازاتها التراكمية، ولذلك ليست المحطة الأولى، ولن تكون الأخيرة، ليست نهاية الرحلة، رحلة الحرية والاستقلال والعودة للشعب الفلسطيني، وليست بداياتها.
بدأت المحطة الكفاحية الأولى بعد نكبة عام 1948، واحتلال ثلثي أرض فلسطين، وطرد وتشريد نصف الشعب الفلسطيني خارج وطنه، وتفتيت هويته الوطنية، وتبديد أرضه، وتمزيق تماسكه الإنساني الاجتماعي، وبذلك فقد الشعب الفلسطيني مكانته كشعب، وتحولت قضيته الوطنية من قضية سياسية، إلى قضية إنسانية، وشريحة تستحق الشفقة.
في 23/7/1963، وفي خطاب الاحتفال بثورة يوليو، أعلن الرئيس الراحل عبد الناصر مقولته المشهورة مخاطباً الفلسطينيين بقوله: «لا يوجد زعيم عربي، لديه خطة لتحرير فلسطين، وعليكم أن تمسكوا قضيتكم بيديكم، وتحرير وطنكم وعودة اللاجئين منكم».
وبناء عليه كلفت الجامعة العربية أحمد الشقيري، بالعمل من أجل تشكيل مؤسسة فلسطينية تُعنى بالشعب الفلسطيني، وخطة عمل تعمل على إبراز قضيته وتطلعاته لاستعادة حقوقه.
الراحل الملك حسين التقط الفكرة وتبنى مشروع المؤسسة الفلسطينية، وهكذا تم انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول للمجلس الوطني الفلسطيني في القدس على أرض المملكة الأردنية الهاشمية آنذاك في شهر أيار 1964، وبرعاية أردنية من قبل الملك حسين، سجل الأردن أنه موقع ولادة المؤسسة الفلسطينية: منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة إبراز الهوية الوطنية الفلسطينية المستقلة، المفقودة.
في 1/1/1965، انطلقت العملية الأولى لحركة فتح، وبات الأول من كانون الثاني 1965، هو الإقرار والاعتراف والاحتفال بانطلاقة الثورة الفلسطينية، بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني.
وبهذه الوقائع اكتملت مقومات المحطة الأولى من مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وحصيلتها الاعتراف الرسمي العربي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وقبولها طرفاً مراقباً لدى الأمم المتحدة عن الشعب الفلسطيني، عام 1974.
في عام 1987، انطلقت مقومات المحطة الثانية للحركة الوطنية الفلسطينية، بالانتفاضة الأولى ذات الطابع الجماهيري الشعبي المدني غير المسلح داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وحصيلتها عام 1993 اتفاق أوسلو التدريجي متعدد المراحل مع الطرف الإسرائيلي بقيادة اسحق رابين، وما تضمنه من نتائج:
1 - الاعتراف بالشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير، وبالحقوق السياسية للفلسطينيين.
2 - عودة ما يقارب النصف مليون فلسطيني إلى قطاع غزة والضفة الفلسطينية مع الرئيس الراحل ياسر عرفات.
3 - ولادة السلطة الفلسطينية كمقدمة لمشروع الدولة الفلسطينية.
4 - الانسحاب الإسرائيلي التدريجي من المدن الفلسطينية بدءاً من غزة وأريحا أولاً.
5 - الأهم من كل ذلك، نقل الموضوع والعنوان والنضال الفلسطيني من المنفى إلى الوطن.
وشكلت الانتفاضة الثانية عام 2000، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد برعاية أميركية بين ياسر عرفات ويهود براك، شكلت المحطة الثالثة في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، التي اجبرت شارون عام 2005، للرحيل من قطاع غزة، بعد فكفكة المستوطنات وإزالة قواعد جيش الاحتلال من كامل قطاع غزة.
عملية 7 أكتوبر 2023 الكفاحية، شكلت المحطة الرابعة في مسار النضال الوطني للشعب الفلسطيني، فقد وجهت ضربة موجعة للمستعمرة الإسرائيلية، وصدمة للمجتمع الإسرائيلي، ومفاجأة للمؤسسة العسكرية والأمنية، حيث أخفقت في كشف استعدادات حركة حماس المنظمة للعملية، وعدم معرفة مخططات تنفيذها، رغم القدرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية المتفوقة، وحصيلتها قتل 1200 إسرائيلي، وأسر 251 ما بين مدني وعسكري، ومنهم 90 ضابطا وجنديا.
ردة الفعل الإسرائيلية كانت عنيفة حادة شرسة، وبدأت عمليات قصف بري وجوي وبحري منذ الثامن من أكتوبر حتى 28/10/2023، لمدة عشرين يوماً اقتصرت على القصف والتدمير والقتل والاغتيالات المنظمة المقصودة، ومن ثم بدأت عمليات الاجتياح لقطاع غزة ووضع يوآف جالنت ثلاثة أهداف لعملية الاجتياح العسكرية الإسرائيلية:
1 - إنهاء وتصفية المقاومة الفلسطينية، 2- إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، 3- تقليص الوجود البشري للفلسطينيين في قطاع غزة بالقتل والتصفية، ومن ثم دفعهم نحو الرحيل.
وحصيلة الاجتياح والهجوم الإسرائيلي لقطاع غزة:
أولاً: الإخفاق والفشل في تنفيذ المهام الثلاثة التي وضعها جيش الاحتلال مع الأجهزة الأمنية، فقد أخفق في إنهاء وتصفية المقاومة الفلسطينية وبالذات حركة حماس، رغم تمكنه من اغتيال أغلبية قياداتها العسكرية والأمنية والسياسية، حيث لا زالت قادرة على توجيه ضربات متقطعة لقوات الاحتلال، وأخفق في معرفة أماكن الأسرى الإسرائيليين، وعدم إطلاق سراحهم بدون عملية تبادل، رغم احتلاله لكامل قطاع غزة، كما لم يتمكن من طرد وتشريد الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء، أو إلى أي مكان آخر.
ثانياً: تمكن من قتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين بالقتل والقصف والتجويع والعطش، وتدمير أكثر من ثلثي قطاع غزة: 286 الف منزل كاملة، و189 جزئياً، وأدى ذلك إلى ردة فعل دولية غير مسبوقة، حيث شملت الاحتجاجات كافة عواصم ومدن العالم على جرائم المستعمرة البائنة البشعة.
ثالثا: التحول في الموقف الأوروبي بعد أن كانت وخاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا صانعة المستعمرة الإسرائيلية على أرض الشعب الفلسطيني: بريطانيا بقراراتها بدءاً من وعد بلفور 1917، وانتدابها على فلسطين حيث سهلت استقبال المهاجرين الأجانب وتوطينهم وتمكينهم من السيطرة على فلسطين طوال السنوات بين عامي 1920 حتى 15/5/1948، حيث أعلنوا مستعمرتهم المستقلة على ثلثي خارطة فلسطين، وفرنسا ساهمت بدعم المستعمرة بأسلحتها التقليدية والنووية، وألمانيا بدفع المهاجرين الأجانب اليهود من التوجه إلى فلسطين على خلفية ما تعرضوا له من اضطهاد في العهد النازي، وبالتعويضات المالية التي تجاوزت عشرات المليارات من الماركات سابقاً والأورو لاحقاً، إضافة إلى اعتراف وانحياز معظم بلدان أوروبا الغربية بالمستعمرة ومدها بكافة مقومات التعاون والشراكة وأدوات التفوق والقوة، قبل أن تتبناها الولايات المتحدة كاملة.
أوروبا وفي طليعتها بريطانيا وفرنسا ومعظم البلدان الأوروبية باستثناء ألمانيا اعترفت بالدولة الفلسطينية من قبل حكوماتها بسبب الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت المدن الأوروبية، رفضاً لسياسات المستعمرة وجرائمها، وتضامناً مع الشعب الفلسطيني ومعاناته وأوجاعه، وثمة سبب آخر دفع العواصم الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية وشجب السياسات الإسرائيلية وجرائمها ضد المدنيين وهي تخلص أوروبا من «عُقدة العداء للسامية»، حيث لازمت هذه العقدة النفسية السياسية الجرمية على خلفية ما تعرضوا له اليهود من ظلم وإجحاف على يد القيصرية الروسية، والنازية الألمانية، والفاشية الإيطالية، فكان السلوك الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين من قتل وتجويع وحصار، يفوق أو يشابه ما تعرض له اليهود في أوروبا، وبذلك تحررت أوروبا من هذه العقدة، وباتوا رافضين للسلوك الإجرامي الهمجي الإسرائيلي.
جموح المستعمرة الإسرائيلية، وجرائمها، وتفوقها وقسوتها، لم تكن لتتم لولا الدعم الأميركي والإسناد بكل مقومات القوة العسكرية والتسليحية والتفجيرية والمالية والاقتصادية وغطاء الحماية السياسية والدبلوماسية، وحينما وجدت الولايات المتحدة أن قوات المستعمرة لم تتمكن من تنفيذ مهامها وإخفاقها في قطاع غزة، تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر كما حصل في قصف مواقع إيران النووية حينما أخفقت قوات المستعمرة من تنفيذها مهمتها في شهر حزيران يونيو 2025، وحينما أخفقت سياسات وإجراءات وجرائم المستعمرة من هجومها على قطاع غزة، وكاد الإخفاق والفشل أن يتحول إلى هزيمة معنوية سياسية، تدخل الرئيس ترامب شخصياً وقدم مبادرته من أجل وقف إطلاق النار يوم 29 أيلول سبتمبر 2025 وإظهار رغبته لتسوية الوضع الميداني والسياسي، وتم الاتفاق في مصر بين المستعمرة وحركة حماس التي هدفت القوات الإسرائيلية لتصفيتها، اضطرت تحت الراية الأميركية ورعايتها، وبواسطة مصرية قطرية تركية لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار معها يوم 9/10/2025.