الغد
في مشهد عالمي تتقاذفه الأزمات وتغلب عليه التحولات الجذرية في موازين القوى، انعقدت قمة مجموعة الدول السبع الكبرى (G7) في كندا عام 2025 وسط حالة غير مسبوقة من الارتباك الجيوسياسي. فبين التصعيد العسكري في الشرق الأوسط، وحرب الاستنزاف المتواصلة في أوكرانيا، وتوتر العلاقات مع الصين، باتت القمة مناسبةً لعرض التصدعات أكثر من كونها منصة لتوحيد المواقف.
لكنّ المفاجأة التي سيطرت على أجواء القمة لم تكن في بيانها الختامي أو مخرجاتها الدبلوماسية، بل في عودة دونالد ترمب إلى الواجهة، ليس كرئيس، بل كـ»فاعل غير رسمي» حاصر الأضواء وتجاوز في حضوره بعض الزعماء الرسميين.
كندا – الدولة المضيفة – سعت لأن تكون القمة منصة لتوحيد الصفوف الغربية أمام التحديات الدولية، لكن الانقسامات كانت أعمق من أن تُدار. فرنسا وألمانيا ظهرتا مرتبكتين في مواقفهما من التصعيد في أوكرانيا وغزة وبين ايران وإسرائيل، بينما ركّزت بريطانيا على أجندة اقتصادية محلية. أما إيطاليا واليابان، فحافظتا على حضور حذر دون مواقف لافتة.
المفارقة أن القمة التي كانت سابقًا عنوانًا لوحدة الغرب، باتت هذا العام رمزًا لتفككه. لم يصدر عنها موقف موحد بشأن الحرب في الشرق الأوسط، ولا رؤية استراتيجية واضحة تجاه الصين، بل بدت أقرب إلى «منتدى تبادل ملاحظات»، كما وصفها أحد الدبلوماسيين الأوروبيين.
فوضى العالم... وانعكاسها في شخصية ترمب
ربما لم يكن ظهور ترمب المفاجئ مجرد حدث جانبي، بل تجسيد لحالة عالمية تتّسم بانهيار اليقينيات وعودة الشعبويات. فشخصيته الصدامية ونهجه الفردي ينسجمان مع واقع دولي متأزم، حيث تتراجع المنظمات الأممية، وتتقدّم الحسابات الأنانية للدول.
ترمب – الذي هدد بسحب القوات الأميركية من أوروبا، وأعاد التشكيك بفعالية حلف الناتو، وأعلن رفضه لمساعدات غير مشروطة لأوكرانيا – وجد آذانًا صاغية لدى بعض السياسيين الأوروبيين الذين باتوا يشككون بدور واشنطن كـ»ضامن عالمي». وبهذا، بدا كأنه يعيد تشكيل السياسات الغربية من خارج الحكم.
القضية الفلسطينية: الحاضر الغائب
في خضم الأزمات العالمية، حضرت القضية الفلسطينية في القمة بشكل باهت، لا يليق بحجم المأساة الإنسانية الجارية في غزة والضفة. ورغم تصاعد العدوان الإسرائيلي واتساع نطاقه الإقليمي، لم تتصدّر القضية مداولات القادة، ولم تُخصص لها جلسة مركزية.
البيان الختامي اكتفى بعبارات عمومية حول «احترام القانون الدولي» و»ضرورة التهدئة»، دون توجيه أي إدانة واضحة لإسرائيل أو دعوة صريحة لوقف إطلاق النار. وفسّر مراقبون هذا التجاهل بأنه انعكاس لانحياز غربي متصاعد، وتراجع الاهتمام السياسي بالقضية الفلسطينية لصالح ملفات يُنظر إليها في الغرب على أنها أكثر «إلحاحًا».
الأخطر من ذلك، أن مقربين من ترمب تحدثوا علنًا عن ضرورة «إعادة هيكلة المساعدات الدولية»، بما يشمل تخفيض الدعم للأونروا، وهي خطوة تهدد حق العودة وتؤسس لضغوط جديدة على اللاجئين الفلسطينيين. أما الموقف العربي، فقد غاب كليًا عن كواليس القمة، ولم تُسجَّل أي مبادرة جادة للتأثير على جدول الأعمال أو البيان الختامي.
وهكذا، خرجت القضية الفلسطينية من القمة كما دخلتها: مُغيبة، مهمشة، ومجرد تفصيل صغير في لعبة القوى الكبرى.
والسؤال هل نحن أمام مرحلة ما بعد الغرب؟
قمة السبع في كندا 2025 لم تكن مجرد لقاء سياسي رفيع المستوى، بل لحظة كاشفة لسقوط سردية «القيادة الغربية للعالم». ظهور ترمب بهذه القوة، وسط عجز القادة الرسميين عن بلورة موقف موحد تجاه الأزمات، يطرح سؤالًا جوهريًا: هل العالم يتجه نحو مرحلة «ما بعد الغرب»، حيث تُهيمن الفوضى، وتُصاغ التحالفات بناءً على المصالح الفردية لا المبادئ المشتركة؟
وفي هذا المشهد المرتبك، تبدو القضية الفلسطينية – ومعها شعوب الجنوب – الخاسر الأكبر، إذ تتقلّص مساحة العدالة الدولية، وتتمزق قواعد القانون، ويُترك الضعفاء لمصيرهم في زحام قوى تتصارع على النفوذ بلا بوصلة أخلاقية أو سياسية.