الدستور
آخر تعديل: الخميس 2 تشرين الأول / أكتوبر 2025. 12:00 صباحاً
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 27-28].
لنتأمل سيناريو افتراضيًا يعيد عقارب الزمن إلى السابع من أكتوبر، متخيلين مسارًا بديلًا للأحداث اللاحقة.
في أعقاب عملية طوفان الأقصى مباشرةً، يُباشر الكيان الصهيوني تحقيقًا شاملًا في ملابسات العملية وأسبابها الجذرية. تتسارع وتيرة المفاوضات، لتُكلل في غضون أسابيع قليلة بإبرام صفقة تبادل شاملة للأسرى والمحتجزين..
مع نهاية عام 2023 ومطلع 2024، يعود الأسرى إلى أوطانهم، بينما يخرج المعتقلون الفلسطينيون من السجون الإسرائيلية إلى الحرية. يبتلع الكيان الصهيوني مرارة الهزيمة ويدخل في حالة حداد ممتدّة، فيما ينكبّ كبار محلّليه على تشريح أخطاء الحكومة وإخفاقاتها في التعامل مع هذا الحدث المصيري. يُجمع المراقبون على اعتبار ما حدث هزيمة ساحقة لإسرائيل، وانتصارًا حاسمًا لحماس، بينما تصل القطع البحرية الأمريكية إلى المياه الإقليمية مُطلقة تحذيرات صارمة ضدّ أي تهديد قد يطال الكيان المحتل.
يُحكم الكيان الصهيوني قبضته على غزة بحصار أكثر إحكامًا من ذي قبل، ويواظب الطيران على تنفيذ غارات يومية محدودة لاماكن تواجد مقاتلي حماس ضمن استراتيجية حرب استنزاف طويلة الأمد تحظى بدعم دولي واسع.
وفي تطوّر لافت، ينضمّ الكيان إلى المحكمة الجنائية الدولية ويُحيل قادة الحركة إليها، فيما يتصاعد الضغط الدولي لتسليمهم، ويشارك الكيان مع عدة دول في عمليات مشتركة تهدف إلى اعتقالهم وتقديمهم للعدالة الدولية.
يستثمر الكيان المحتل أحداث السابع من أكتوبر بشكل كامل، مستغلًّا تعاطف العالم لممارسة ضغوط سياسية على المجتمعين الدولي والإسلامي، ويحقّق موجة تعاطف عالمية لم يشهد مثيلها من قبل. ينحاز العالم بأكمله إلى صفّ الكيان الصهيوني، فيتوافد قادة الدول لزيارته وتقديم التعازي والدعم، بينما تعمّ المظاهرات الشعبية المؤيدة له، حيث تُضاء الشموع وتنهمر الدموع، وتستحضر ذكريات المحرقة وتحذّر من تكرار الكارثة.
في هذا السياق، يرى المراقبون والخبراء أن الكيان خرج كأكبر المستفيدين من عملية طوفان الأقصى، نجح في تحويل الهزيمة العسكرية إلى انتصار سياسي ودبلوماسي مُبهر. تنتشر عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل مقاطع مؤثرة توثّق معاناة ضحايا العملية ومآسيهم، إلى جانب مواد إعلامية تتّهم حماس بنهب المساعدات الإنسانية بعد تشديد الحصار، كجزء من حملة منظّمة لتشويه سمعة الحركة. يتقبّل الرأي العام العالمي هذه الروايات دون تمحيص، متعاطفًا مع الكيان باعتباره الطرف المظلوم. وتبدأ الشعوب في إبداء عداء متنامٍ تجاه حماس، مبتعدة تدريجيًا عن فصائل الإسلام السياسي وأيديولوجياتها.
على الساحة الداخلية للكيان الصهيوني، تكشف لجان التحقيق النقاب عن إخفاقات السابع من أكتوبر الكارثية، وتقدّم المسؤولين عنها إلى المحاكمة، بينما تشهد الأوضاع السياسية استقرارًا تدريجيًا يتجاوز صدمة ذلك اليوم المشؤوم. أما على الأرض الفلسطينية، فتكتسب التيارات اليمينية واليسارية زخمًا متناميًا في أوساط المجتمعات المهجّرة، على حساب نفوذ حماس المتراجع. في لبنان، تخرج مظاهرات شعبية تُطالب حزب الله بنزع سلاحه وتفكيك ترسانته، فيما يفقد محور المقاومة بريقه وجاذبيته السابقة بشكل ملحوظ.
لو عادت بنا الأقدار وتعامل الكيان المحتل مع الأحداث بحنكة سياسية مغايرة، لربما حقق إنجازات تفوق كل ما ناله بالعنف والقوة الغاشمة، حين ينفتح أمامه العالم بكامل أبوابه. لكن هذا السيناريو الطموح يتطلّب قيادات استراتيجية بصيرة، تحرّكها المصالح القومية العليا، قادرة على استثمار الأحداث كما فعل أسلافهم حين استغلّوا مأساة المحرقة النازية بلا رحمة، وتاجروا بمعاناة الضحايا لتحقيق مكاسب جوهرية، كان أعظمها الحصول على فلسطين. ولو استمرّوا في إجادة دور الضحية، لاستطاعوا إتمام مشروعهم كما رسموه في البداية.
وأنا موقنٌ تمام الإيقان أن القوة المجرّدة وحدها عاجزة عن ضمان ديمومة هذا الكيان، وأن سفك الدماء لا يُقابل إلا بمزيد من الدماء، ولعلّ صفحات التاريخ ستسجّل أن مجرم الحرب نتن ياهو وعصابته كانوا هم مَن عجّلوا بانهيار هذا الكيان وتفكّكه من الأساس.