عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Jul-2025

التهدئة في السويداء.. الدور الأردني*د. حسن عبد الله الدعجة

 الغد

لعب الأردن دورا دبلوماسيا بارزا في تهدئة الأوضاع المتفجرة في محافظة السويداء جنوب سوريا، والتي شهدت تصاعدا في أعمال العنف والاقتتال الداخلي خلال الأشهر الماضية. هذا الدور، الذي انسجم مع الجهود الإقليمية والدولية الرامية إلى منع انزلاق الجنوب السوري نحو فوضى أمنية شاملة، تكلل بنتائج ملموسة على الأرض تمثلت في التوصل إلى تفاهمات أدت إلى وقف القتال، وتجميد التصعيد الإسرائيلي في بعض النقاط الحدودية القريبة من الجنوب السوري، خصوصا في ظل مؤشرات مقلقة عن دعم إسرائيلي غير مباشر لبعض الجماعات المسلحة هناك.
 
 
اتسم الدور الأردني بالحكمة والتوازن، وهو ما يعكس عمق الرؤية وحنكة القيادة الهاشمية التي لطالما عُرفت بقدرتها على التنقل في متاهات الأزمات الإقليمية ضمن مشهد سياسي معقد والتحديات المتحركة. إذ حرصت المملكة على التعامل مع الأزمة في السويداء بروح المسؤولية العالية، دون التورط المباشر في الشأن السوري، مع الحفاظ على أمنها الوطني الذي يتعرض لضغوط متزايدة عند حدودها الشمالية من خلال تهريب المخدرات والأسلحة والطائرات المسيرة. في هذا المشهد المتشابك، الذي يتطلب عقلا قادرا على فك شيفرة المتغيرات في المشهد الإقليمي، اختارت القيادة الأردنية نهجا مزدوجا: حماية الحدود كحصن للأمن القومي، بالتوازي مع دبلوماسية هاشمية ناعمة تُعيد رسم ملامح الاستقرار، في تَشابك متناغم مع أطراف إقليمية، ضمن "تپستري" من المصالح والمخاوف التي لا تُدار إلا بالحكمة والتروي.
 
وفي هذا السياق، برز التعاون الأردني-التركي كأحد العوامل الأساسية التي ساهمت في وقف التصعيد. فرغم تباين المصالح بين عمان وأنقرة في الملف السوري خلال السنوات السابقة، إلا أن تطورات الميدان فرضت تقاربا موضعيا بين الطرفين، خصوصا في ما يخص الحفاظ على استقرار الجنوب السوري وتجنب تفكك النسيج الاجتماعي في السويداء، الذي لطالما شكل صمام أمان للتوازنات الطائفية والسياسية في سورية. وقد تبادلت العاصمتان رسائل عبر قنوات دبلوماسية مباشرة وغير مباشرة، تناولت سبل دعم المبادرات المحلية للتهدئة، واحتواء أي تدخلات إسرائيلية قد تؤدي إلى تفجير الموقف ميدانيا، بما يضر بأمن الدول المجاورة.
أدرك الأردن، بحكم موقعه الجيوسياسي الدقيق وخبرته في التعاطي مع الأزمات الإقليمية، أن أي انفجار أمني في السويداء، لا سيما إذا ما ارتبط بتدخلات خارجية، ستكون له ارتدادات خطيرة على أمن المملكة الداخلي وحدودها الشمالية. من هنا، تركزت الجهود الأردنية على دعم المساعي المحلية للتهدئة داخل السويداء، دون الاصطفاف مع أي طرف، مع تشجيع القيادات الدينية والاجتماعية الدرزية على تغليب صوت العقل والحفاظ على خصوصية المحافظة في المشهد السوري.
وبالتوازي، كثّف الأردن تحركاته الإقليمية لاحتواء التصعيد الإسرائيلي الذي تزامن مع التوتر في الجنوب السوري. فهناك قناعة متزايدة لدى صناع القرار في عمان بأن بعض الأنشطة الإسرائيلية في الجنوب، بما فيها دعم غير مباشر لبعض الجماعات المسلحة أو التساهل في حركة الطائرات المسيّرة، تهدف إلى إشغال الدولة السورية وتحويل الجنوب إلى منطقة نفوذ رمادية، تكون بمثابة حاجز أمني ناعم لإسرائيل، لكن على حساب استقرار الأردن وسورية معا. ولذلك، جاءت الرسائل الأردنية واضحة إلى العواصم المعنية، بأن استمرار هذه الاستفزازات لن يمر دون رد، ولو بالوسائل الدبلوماسية، وأن الأردن لن يقف مكتوف الأيدي أمام أي مشروع يهدد أمنه الحدودي أو يعيد إنتاج الجماعات الخارجة عن القانون تحت مظلة جغرافية جديدة.
وقد ساعدت تركيا في هذا الجانب عبر استخدام قنواتها مع فصائل مسلحة محسوبة عليها في الشمال السوري للضغط عليها بعدم الانخراط في معارك الجنوب، أو إرسال تعزيزات تثير المخاوف في السويداء والمناطق المحاذية لها. كما عملت أنقرة بالتوازي على كبح جماح بعض الجماعات الراديكالية التي كانت ترى في اشتعال الجبهة الجنوبية فرصة لتوسيع رقعة نفوذها. وهو ما التقت حوله المصلحة التركية مع الرؤية الأردنية، رغم اختلاف المنطلقات، إذ أدرك الطرفان أن استقرار الجنوب يصب في مصلحة استقرار الإقليم.
لم يقتصر الدور الأردني على الوساطة السياسية فحسب، بل تضمن أيضا تقديم مبادرات تنموية وخدمية بالتنسيق مع منظمات دولية لإعادة الحياة إلى بعض المناطق المتضررة، وذلك في محاولة لمنع عودة الفوضى مجددا. كما استمر الأردن في تنسيق ملف اللاجئين والحد من عمليات التهريب من الأراضي السورية، بالتعاون مع القوى المحلية المعتدلة، في رسالة واضحة مفادها أن عمان لا تسعى إلى فرض نفوذ أو أجندات، بل إلى شراكة تحافظ على أمن الحدود وتمنع تفجر الأوضاع.
لقد نجحت الجهود الأردنية-التركية المشتركة في خلق مظلة تهدئة نسبية، سمحت بتراجع حدة التوتر في السويداء، وإعادة تموضع بعض الجماعات المسلحة بعيدا عن مراكز الاشتباك، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية التي كانت تستغل الفوضى لفرض وقائع ميدانية جديدة تمس السيادة السورية وتُهدد الأمن الإقليمي. هذا الإنجاز لم يكن وليد المصادفة، بل جاء نتيجة تحرك دبلوماسي محسوب، اعتمد على التنسيق الأمني الهادئ، وفتح قنوات اتصال متعددة مع مختلف الأطراف، بما في ذلك الفاعلين المحليين والدوليين. وقد لعبت تركيا دورًا مكملًا عبر ضبط بعض خطوط الإمداد والتأثير على الفصائل المتصلة بها، في حين ركّز الأردن على منع انزلاق الأحداث نحو حدوده، وتعزيز التنسيق مع الجانب السوري في الجوانب الأمنية والإنسانية. وما تحقق لم يكن ليتبلور لولا إدراك الأردن العميق لطبيعة الأزمة، وحسن قراءته لتوازنات القوى، واستخدامه أدوات دبلوماسية ناعمة لكنها مؤثرة، عززت مكانته الإقليمية كوسيط نزيه وفاعل قادر على تهدئة أكثر الملفات تعقيدًا.