عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Sep-2025

من يغتصب العقول العربية؟*د. محمود أبو فروة الرجبي

 الغد

لم تأت قوة الولايات المتحدة، وتفوقها في مختلف الـمجالات من فراغ، بل نتيجة سياسات ناجحة قامت عليها منذ تأسيسها، وعلى رأسها استقطاب الـمتفوقين، والـمبدعين، والمتميزين من جميع أنحاء العالم، وإعطاؤهم حرية العمل، للاستفادة منهم، ومن يتجول في مركز أبحاث أميركي على سبيل المثال يمكن أن ياحظ التنوع العرقي، واختلاف الأصول والمنابت، وهذا أعطى لهذه الدولة قدرة على قطف أفضل ما تنتجه عقول العالم، وعلى الحفاظ على تفوقها الساحق لعقود طويلة، وعندما كانت تحدث هزة، أو انقلاب، أو تغير في نظام حكم قوي، كان يتم استقطاب الكفاءات والمواهب الـمتوفرة في تلك الدولة، لتصب في صالح أميركا، ولعلنا نذكر هنا القانون الذي سنه الكونغرس الأميركي الخاص باستقطاب علماء الاتحاد السوفييتي وقت انهياره. 
 
 
جزء من نجاح أميركا هي عملية تقنين استقطاب المواهب العالمية، فمثلاً تتيح تأشيرة H-1B سنويًا استقدام عشرات الآلاف من العمالة الماهرة، إضافةً إلى برامج أخرى مثل تأشيرة O-1 للمواهب الفذة والبطاقة الخضراء (الإقامة الدائمة) للمستثمرين أو أصحاب الكفاءات العالية عبر فئاتٍ مثل EB-1 وEB-2. كما تستقطب الجامعات الأميركية أفضل الطلاب الباحثين عالميًا من خلال المنح والتبادل الثقافي، ثم توفر لهم مسارات للبقاء والعمل في الولايات المتحدة بعد التخرج (مثل برنامج التدريب العملي الاختياري OPT للخريجين الأجانب في تخصصات محددة. 
بفضل هذه السياسات وغيرها، يشكل المهاجرون عمودًا فقريًا في قطاعات العلوم والتكنولوجيا الأميركية. ففي عام 2020 وحده عمل حوالي 4.8 مليون شخصٍ من حملة الشهادات الجامعية المولودين في الخارج ضمن مشاريع البحث والتطوير في الولايات المتحدة حسب موقعnationaldefensemagazine.org. وعلى الرغم من أن نسبة المهاجرين لا تتجاوز 14 % من سكان أميركا، فقد حصلوا على نحو 30 % من براءات الاختراع الأميركية ونحو 40 % من جوائز نوبل الأميركية في الكيمياء والطب والفيزياء (للمزيد ارجع على موقعnationaldefensemagazine.org.)، ووفقًا لتقريرٍ حديثٍ، يتم تأسيس نحو 46 % من الشركات الأميركية على يد مهاجرين أو أبناء مهاجرين americanimmigrationcouncil.org، بما في ذلك عمالقة التكنولوجيا والطب الذين يقودون الابتكار والتوظيف في الاقتصاد الأميركي الحديث.
إلى جانب ذلك، يعتمد قطاع التكنولوجيا والصناعة المتقدمة في أميركا على نسب مرتفعةٍ من الكفاءات المولودة خارج البلاد. فعلى سبيل المثال، 75 % من حملة شهادة الدكتوراه و60 % من حملة الماجستير في قطاع تصنيع الإلكترونيات بالولايات المتحدة هم من المهاجرين nationaldefensemagazine.org. وبشكلٍ عامٍ يساهم العلماء والمهندسون والأطباء المهاجرون في سد النقص في سوق العمل الأميركية ورفع تنافسية الاقتصاد، كما يعززون التفوق العلمي والتكنولوجي الأميركي عبر مشاركتهم البارزة في الأبحاث وبراءات الاختراع والشركات الناشئة.
نذهب الآن إلى وطننا العربي الكبير الغالي الذي يعاني منذ عقودٍ طويلة مما يسمى “نزيف الأدمغة” (أي هجرة العقول والكفاءات إلى الخارج) حيث يتم ايفاد كثيرين من خيرة خريجيها إلى الدول المتقدمة سعيًا وراء فرصٍ أفضل. وكشفت دراساتٌ أمميةٌ مبكرةٌ حجم هذه الظاهرة؛ إذ قدر تقرير التنمية الإنسانية العربي لعام 2003 أن حوالي 50 % من الأطباء و23 % من المهندسين و15 % من العلماء العرب كانوا قد هاجروا بالفعل إلى الغرب حتى منتصف السبعينيات كما هاجر نحو 15 ألف طبيبٍ عربيٍ خلال عامي 1998 و2000 وحدهما، وإذا كانت هذه الإحصائيات قديمة، فإن نسبة الهجرة ارتفعت بشكل كبير في هذه الأيام بسبب الظروف التي تمر بها كثير من الدول العربية، فقد أشارت دراسةٌ استطلاعيةٌ عام 2019 أن أكثر من 90 % من الباحثين والأكاديميين في الشرق الأوسط أعربوا عن رغبتهم في الهجرة إلى الخارج لو أتيحت لهم الفرصة حسب موقع amacad.org . وتشير بيانات البنك الدولي والمرصد العربي للهجرة إلى أن فئة الشباب والمتعلمين هي الأكثر ميلًا للهجرة. 
الأسبوع الـماضي آثار قرار الرئيس الأميركي ترامب بفرض رسوم باهظة على تأشيرة H1-B  التي تعطى لأصحاب الكفاءات العليا في جميع أنحاء العالم، وهذا قد يكون له انعكاسات سلبية على الولايات المتحدة مع مرور الوقت، إضافة إلى قرارات أخرى مرتقبة في السياق نفسه.
 ما يهمنا نحن في الـموضوع كله هو أن نطرح سؤالا مؤلـمًا: ألا يمكن للعرب أن يستفيدوا من خبرات الـمتفوقين من أبنائهم وبناتهم؟ وأن يمنعوا هجرتهم من خلال احتضانهم وإعطائهم المجال الحقيقي للإبداع؟.. أتذكر أنني في أحد الـمقالات اقترحت على الدول العربية عمل “محميات للمبدعين” بحيث يتم فيها جعل التعيين في الأماكن التي تحتاج لابداع، مثل مراكز الأبحاث، والمؤسسات العلمية، ومراكز التخطيط وغيرها بناء على معايير الإبداع  فقط، وأن تحمى بالقوة من الواسطات، والمحسوبيات، والتدخلات في التعيين، وأي شكل من أشكال التهميش المتعمد وغير المتعمد. 
والسؤال الـمؤلم هو: إلى متى نرى الواسطة والمحسوبية، والمحاباة، وتقييم العلماء والكفاءات والـمبدعين تتم وفقًا لمعايير يجب أن تنتهي منذ العصور الوسطى؟ متى سيدرك العرب أن تقدمهم الحقيقي لن يكون إلا من خلال وضع الموهوبين والـمبدعين ضمن مشاريع حقيقية، ووقتها سيرون التفوق والإبداع، وساعتها سيحصل الجميع على حصصهم من التطور والتقدم، أما أن يتم تقديم من هم ليسوا أهلًا للعلم، بناء على الواسطة ومعايير غير مقبولة، فهذا سيكبح التطور، وستسمر كارثة نزيف العقول العربية. 
لتمنع أميركا الـمبدعين من دخولها، ولتقلل من فرصهم فيها، فهذا مقتل لها، وما يهمنا نحن أن نتعلم الدرس وندرك أن العلم هو جسر التطور، وأن عقلية المحاباة والمحسوبية، وتقريب الناس بناء على الحب، والقرابة، وغيرها لن تفيدنا شيئًا. 
قرار الرئيس ترامب الأخير فرصة لأصحاب القرار في الوطن العربي أن يختاروا هل سنبنى بيئة خصبة صديقة للإبداع في أوطاننا؟، أم سنبقى ندور في حلقة مفرغة، ونعتمد على غيرنا في كل شيء، ونأتي – في غالبية الدول العربية- في ذيل القائمة في المؤشرات العالمية الإيجابية، فنفقد استقلالنا، وقرارنا، ونبقى نلهث وراء التكنولوجيا الغربية؟ 
الخلاصة: ليس الـمهم من يقرع الجرس فهم كثر، وقد بح صوتهم من ذلك، بل الأهم من يستمع لهم؟ ويا ليت قومي يعلمون!