عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Sep-2025

العزاء الأسمى*رمزي الغزوي

 الدستور

حين قبع الفيلسوف بوثيوس في سجنه بانتظار الإعدام، لم يجد عزاء إلا في هيئة متخيلة سماها «سيدة الفلسفة». بدت له ككائن نوراني يهمس في أذنه بأن انتصار الباطل لا يجعله حقا، وأن التفلسف ليس سوى تمرين على مواجهة الموت بوعي لا بخوف. كانت تلك السيدة بلسما لروح فردية محطّمة، تعينه على تجرع نهايته بقدر من السكينة. لكن، ماذا لو تحول الموت من مأساة فرد إلى قدر جماعي يلتهم شعبا بأكمله؟ هل تبقى تلك الفلسفة وسيدتها كافيتين؟
 
في غزة ينهار اليوم السؤال الفلسفي أمام آلة القتل والإبادة، تتبخر الحكمة مع صاروخ يسوي حيّا بالأرض، وتبدو الكلمات عاجزة وهي تتكسر على شاشات الأخبار. الفلسفة هنا ترتبك وترتجف وتتشظى، لأنها لم تتدرب على استيعاب تلك الإبادة كفعل يومي متكرر، ولأن «العزاء» لا يكفي أبداً حين تتحول المدن إلى ركام والبيوت إلى أكفان. فما جدوى أن نقول إن الباطل زائل ونحن نحصي الأشلاء؟
 
فالحكمة التي يردّدها الناس عادة، بأن الظالم سينهار يوما، لا تصمد أمام تاريخ طويل من الطغاة الذين أفنوا أعمارهم في الفتك ولم يطالهم قصاص. الجيوش تعود إلى ثكناتها، الجنود يرفعون كؤوسهم، والخراب يظل شاهدا ينخر الأرواح. هنا يغدو العزاء الشعبي ملاذا نفسيا أكثر منه قانونا أخلاقيا.
 
بعد الحرب العالمية الثانية لم تخرج أوروبا من ظلامها بالأدعية وحدها، بل بحكمة الأمل والعمل. اليابان وألمانيا نهضتا من تحت الرماد لأنهما تمسكتا بفكرة أن المستقبل يمكن أن يولد من الفاجعة. تلك هي الحكمة التي نفتقدها في ثقافتنا، حيث يترسخ التواكل وانتظار المعجزات وكأن السماء تمطر الحلول.
 
ربما لم يعد السؤال اليوم: هل تنقذنا الفلسفة أو تسندنا الحكمة؟ بل: كيف نعيد ابتكار عزائنا الجماعي كي نواصل السير وسط الركام؟ نحن أحوج إلى حكمة تصنع من الألم معنى، وتحوّل اليأس إلى طاقة، وتذكّرنا بأن الإنسان ليس ضحية فحسب تنتظر حكم القدر، بل فاعل يستطيع مقاومة الخراب وصياغة قصة أخرى.
 
الحكمة الحقيقية هي رفض الاعتياد على الموت، أن نقول لا لزمن يجرّد البشر من إنسانيتهم، وأن نصنع عزاء يتجاوز الرضا السلبي إلى فعل يغيّر ويثوّر. حينها فقط يمكن أن تكتسب الفلسفة حياة جديدة، لا في الكتب القديمة ولا على ألسنة الحكماء وحدهم، بل في الشوارع المدمرة، وأصوات الأطفال، ودموع الأمهات، وفي تصميم شعب لا خيار أمامه إلا البقاء.
 
والعزاء الأسمى ليس أن نقبل بالعدم، بل أن نزرع أملا ولو في أرض محروقة. والجمرة التي نحملها في أكفنا ليست لعنة، بل هي برهان أننا ما زلنا أحياء، قادرين على الإضاءة، حتى لو أحرقنا اللهب.