عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Nov-2025

الأحزاب تحت قبة البرلمان.. بين اختبار النضج السياسي وتحديات التمكين الحقيقي

 الغد- جهاد المنسي

 مضى عام على دخول الأحزاب السياسية قبة مجلس النواب، في أول اختبار حقيقي لمسار التحديث السياسي، وكشف هذا العام الكثير مما كان يقال همسًا، وأظهر أن الانتقال من العمل الفردي إلى العمل الحزبي ليس مهمة سهلة ولا طريقًا ممهدًا بالنوايا، فقد جاءت التجربة الحزبية للمجلس محملة بآمالٍ عريضة، لكنها اصطدمت سريعًا بواقع لم يتهيأ بعد لاحتضان العمل البرنامجي المنظم، فبقي الأداء محصورًا بين الطموح والقدرة المحدودة.
 
 
وكان الرهان أن تُحدث الكتل الحزبية فرقًا نوعيًّا في الأداء النيابي، وأن تعيد الحياة لفكرة البرلمان السياسي لا الخدماتي، لكن ما جرى عكس صورة باهتة لحياة حزبية ما زالت في طور التشكل، فالأداء الحزبي لم يتجاوز بأغلب محطاته حدود التجربة، وغابت عنه روح الانسجام والتنسيق، ليبقَى الصوت الحزبي داخل القبة خافتًا ومضطربًا، أقرب للتجمع العددي منه إلى الفعل السياسي الواعي.
سوّاد النواب الحزبيين وجدوا أنفسهم أمام معادلةٍ صعبة، وهي: كيف يلتزمون ببرامج أحزابهم دون أن يصطدموا بحسابات الواقع النيابي؟ وكيف يمارسون المعارضة المسؤولة دون أن يُنظر إليهم كمعرقلين؟ هذه المنطقة الرمادية جعلت الموقف الحزبي مترددًا، والقرار النيابي متأرجحًا، وأفقد الكتل الحزبية القدرة على تكوين موقفٍ جماعي.
المشهد السياسي ما يزال في تطور
 والحقيقة أنه لا يمكن تحميل الأحزاب وحدها مسؤولية هذا الارتباك، فالمشهد السياسي برمته ما زال في طور التحول، فالبنية الحزبية هشة، والتجربة النيابية الحديثة بالأحزاب لم تجد بعد البيئة السياسية والإدارية والاجتماعية التي تحتضنها، والمجتمع نفسه لم يتعود على رؤية نائب حزبي يعبر عن فكر وبرنامج لا عن منطقة أو عشيرة، والدولة من جانبها ما زالت تُعيد ترتيب أدواتها لاستيعاب هذا الشكل الجديد من العمل السياسي المنظم.
 العام الأول لم يكن عامًا للفشل بقدر ما كان عامًا للاكتشاف، فقد كشف حجم الفجوة بين التشريع والممارسة، وبين ما نطمح إليه وما نحن قادرون عليه فعلاً، ولذلك يمكن القول إن التجربة الحزبية داخل القبة لم تنهار، لكنها لم تنهض بعد، وتحتاج لوقت، ومراجعة جريئة تعترف بالأخطاء وتعيد صياغة المسار على أسسٍ أكثر واقعية.
 وقد جاء خطاب العرش في افتتاح الدورة العادية الثانية ليؤكد هذا المعنى ويضع النقاط على الحروف، فالخطاب لم يأتِ احتفالياً، بل جاء سياسياً بامتياز، حافلاً بالرسائل الموجهة إلى الجميع، وجاء ليقول إن الدولة ماضية في مشروع التحديث، وإن التمكين الحزبي ليس خياراً تجميلياً بل ركيزة لبناء المستقبل السياسي، والملك وهو يتحدث عن المشاركة الفاعلة وصنع القرار، كان يؤكد أن الإصلاح السياسي لا يكتمل دون حياة حزبية حقيقية قادرة على إنتاج الموقف، وصياغة الرأي، وممارسة المعارضة الوطنية بمسؤولية لا بمزايدة.
 قادم الأيام ستكشف من يملك الرؤية ومن يكتفي بالشعار، ومن يعمل للبرامج ومن يعيش على اللحظة، فالأحزاب الجديدة مطالبة بأن تتجاوز الحسابات الضيقة، وتترجم خطابها إلى أداء سياسيٍّ مؤسسي، وتثبت أن وجودها لم يكن استجابة لقانون الانتخاب فحسب، بل استجابة لحاجة وطنية لبناء معارضةٍ واعية ومؤثرة.
 وفي الناحية الأخرى، فإن الدولة مطالبة بأن تمنح التجربة فرصتها الكاملة، وتهيئ البيئة التي تحمي العمل الحزبي وتُشجع عليه، لأن الإصلاح السياسي لا يُبنى بالقرارات فقط، بل بالشراكة والثقة المتبادلة، فالحياة النيابية لا تزدهر إلا بوجود رأي آخر قوي ومنظم، يعارض حين يجب أن يعارض، ويصوّب حين يقتضي الموقف، ويؤيد حين يكون التأييد موقفًا وطنياً لا اصطفافًا مصلحيا.
وفي هذا السياق، على الأحزاب الجديدة الاستفادة من تجارب نظيرتها التقليدية مثل جبهة العمل الإسلامي، والشيوعي، والشعب، والوحدة الشعبية، والبعث، وغيرها من القوى التي رغم تباين حضورها وتأثيرها، احتفظت بهويتها الفكرية والسياسية عبر عقود، وقدمت نماذج مختلفة في الموقف والالتزام والتنظيم، فهذه الأحزاب، على اختلاف اتجاهاتها، أدركت مبكرًا أن البقاء السياسي مرهون بالثبات على المبدأ والقدرة على إنتاج موقف وطني مستقل، لا بمجرد الوجود العددي تحت القبة.
بالمجمل، فإن العام الأول كان مرآةً صادقةً لتحديات التحديث، كشف الكثير مما يُقال في الكواليس، وأظهر أن الإصلاح السياسي عمليةٌ طويلة تحتاج إلى صبرٍ وإرادةٍ سياسيةٍ حقيقية داخل الدولة والأحزاب على حدٍّ سواء، والرهان اليوم أن تتحول الدورة البرلمانية الجديدة إلى محطة النضج السياسي، حيث تتبدّل المعادلة من التجريب الحزبي إلى التمكين السياسي، ومن الخطاب إلى الفعل، ومن الوجود الشكلي إلى التأثير الحقيقي.
الأردن، الذي اختار طريق التحديث بإرادةٍ ملكيةٍ واضحة، يستحق حياةً سياسية تليق بتاريخه وتعبّر عن وعي شعبه، والأحزاب، إذا أرادت أن تكون جزءًا من هذه المسيرة، فعليها أن تُثبت أنها ليست عبئًا على الدولة، بل رافعة لمستقبلها، وأن العمل الحزبي ليس شعارًا انتخابيًا بل مسؤولية وطنية كبرى.