عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Nov-2025

الدولة الواحدة: لماذا الآن؟*سائد كراجة

 الغد

يُعدّ حلّ الدولة الواحدة طرحًا قديمًا في الوعي السياسي الفلسطيني. فمنذ الميثاق الوطني عام 1968، قدّمت منظمة التحرير رؤية تقوم على دولة ديمقراطية علمانية على كامل أرض فلسطين التاريخية، استنادًا إلى مبدأ المساواة ورفض الامتياز القومي.
 
 
ومع ذلك، وبعد حرب أكتوبر، وتحت ضغوط عربية ودولية، تبنّت المنظمة التوجّه نحو حلّ الدولتين، الذي قُدّم حينها كخيار لتسوية ممكنة. لكن إسرائيل لم تُبدِ أي استعداد لإنهاء الاحتلال، بل عملت على تثبيته.
فقد شهدت الجغرافيا على الأرض تغيّرًا عميقًا؛ إذ ارتفع عدد المستوطنين من نحو 250 ألفًا بعد أوسلو إلى أكثر من 750 ألفًا اليوم. كما رصدت الأمم المتحدة مئات الحواجز والبوابات والطرق الالتفافية التي قسّمت الضفة إلى مجموعة جزر منفصلة، ما جعل فكرة الدولة الفلسطينية المتواصلة جغرافيًا أو القابلة للحياة اقتصاديًا شديدة الصعوبة.
وعلى الصعيد القانوني، دعّمت إسرائيل هذه الوقائع عبر تشريعات متلاحقة؛ فصدر عام 2014 قانون الاستفتاء الذي يجعل أي انسحاب كبير شبه مستحيل، ثم جاء قانون القومية عام 2018  ليحصر تعريف الدولة باليهودية وتوسّعت السيادة الإسرائيلية في القدس عام 2023، وفي عام 2025 ظهرت مشاريع قوانين تُجرّم العودة إلى حدود 1967. وهكذا أصبح مسار الدولتين مغلقًا سياسيًا وتشريعيًا.
وفي الوقت ذاته، ازداد التداخل السكاني بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل كبير، ما جعل الفصل بينهم شبه مستحيل. فصعوبة الامتزاج العمراني تجعل رسم حدود واضحة أمرًا بالغ التعقيد، وأي محاولة للفصل ستعني اقتلاعًا واسعًا أو تقسيمًا قسريًا. لذلك أصبح حلّ الدولتين طرحًا نظريًا بلا إمكانية تنفيذية.
ويترافق هذا التداخل مع ازدواج قانوني واضح؛ فالفلسطيني يخضع لقانون عسكري، بينما يخضع المستوطن المجاور له للقانون المدني الإسرائيلي. وهذا لا يشير إلى وضع دولتين محتملتين، بل يعبّر عن منظومة واحدة بقانونين يقومان على أساس الهوية. وقد وصفت منظمات دولية هذا الواقع بأنه فصل عنصري.
أما البدائل التي طرحت – كالكونفدرالية أو الضمّ مع حكم ذاتي – فلم تُقدّم حلولًا حقيقية؛ إذ أعادت جميعها إنتاج السيطرة الإسرائيلية بصيغ مختلفة، دون انتقال سياسي فعلي.
أما موقف اليمين الإسرائيلي، وتصريحات كوهين الأخيرة التي تفيد بأن “لا حاجة لإقامة دولة فلسطينية”، فالردّ عليها بسيط وواضح: لا حاجة أيضًا لإقامة دولة يهودية بين النهر والبحر، لأن فلسطين التاريخية ما تزال منذ عام 1900 وحتى يومنا هذا ذات أغلبية عربية مستقرة. كما أن نيويورك – التي يفوق فيها عدد اليهود في فلسطين – قد تكون “عاصمة أبدية” أفضل لإسرائيل من القدس، فكيف يُعقَل أن تكون عاصمة دولة “خالدة” ذات تركيبة سكانية تضمّ 40 ٪ من العرب الذين يُنظَر إليهم كـ“أعداء”؟
وفي مواجهة هذا المنطق، تتقدّم مبادرات فلسطينية – مثل مبادرة “فلسطين الغد” ومؤتمرات الفلسطينيين في الخارج ونشطاء الحركات المدنية – برؤية واضحة: دولة واحدة تقوم على الحقوق المتساوية. ومع تراكم الوقائع الميدانية والقانونية، واتساع الرفض الدولي للفصل، تبرز الدولة الواحدة الديمقراطية كإطار قادر على استيعاب الجميع وإنهاء الصراع بدلًا من إدارته.
ومع تراكم هذه التحوّلات، يتراجع مسار الدولتين إلى مستوى الفرضية غير القابلة للتطبيق، بينما تبرز الدولة الواحدة الديمقراطية بوصفها الإطار الأكثر انسجامًا مع المعطيات الديموغرافية والقانونية والسياسية على الأرض. وما تكشفه التطورات اليوم يقوّض الأسس التي اعتمد عليها المشروع الصهيوني في إعادة تشكيل الجغرافيا والسكان تحت وهم التفوّق بالقوة؛ وهو وهمٌ ينقلب على صاحبه أولًا، كما يشهد التاريخ. وفي ضوء ذلك، يصبح البحث عن صيغة سياسية عادلة ضرورة عملية، ويتقدّم خيار الدولة الواحدة باعتباره استجابة عمليه للواقع القائم لا طرحًا نظريًا أو بديلاً خطابيًا. وإنّ غدًا لناظره قريب جنابك.