الغد
يقال إن الشجاعة أعظم صفة للشخص لأن بقية الصفات تأتي نتاجا لها، ويقال أيضا إن العلاقة بين الحكمة والشجاعة علاقة تكاملية، فالحكمة توجه الشجاعة وتجعلها قوة بناءة، بينما تمنح الشجاعة الحكمة قدرة فائقة على المواجهة والفعل في المواقف الصعبة، أما في وضع كالذي يسود واقعنا الإقليمي منذ بداية حرب الإبادة على غزة فقد نجد أنفسنا أمام مصطلحات تضيف على تلك الثنائية ما هو أبعد من التعريفات المعتادة للحكمة عندما تصبح بوصلة للشجاعة باعتبارها المحرك الضروري لتطبيقها وجعلها حدا فاصلا بين الصواب والخطأ، وبين الممكن والمستحيل.
بالكاد يمكن أن يسمع صوت الحكمة في هذه المنطقة من العالم، فقد علا صوت المدافع والصواريخ على كل صوت، وكانت وراء هذا الجنون وتلك القسوة عقول مغلقة، وقلوب سوداء، ونوايا خبيثة، وقدرة على القتل والدمار لا تصدر إلا عن أعداء الحياة الذين يعيشون أسرى لعقلية القلعة، وأوهام القوة الغاشمة والسرديات الخادعة، الأمر الذي يجعل من الحكمة موقفا مدافعا عن القيم الإنسانية، مناهضا للشر والأشرار، ساعيا إلى إعلاء صوت الحق والعدل رغما عن أي شيء!
ربما لم أكن لحاجة إلى هذا التمهيد كي أتحدث عن الحكمة المصانة بالشجاعة أو الشجاعة المحصنة بالحكمة التي أظهرها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وما يزال في التعامل مع أخطر ما عاشته المنطقة من صراعات محاطة بنوايا وحسابات وتقاطعات لم تكن واضحة بهذا القدر الذي رأيناه من خلال الخطابات والتصريحات الصادرة عن جلالته وهو يكافح من أجل وضع حد للحرب الظالمة على أهل غزة ، وللاعتداءات اليومية على أهالي القدس والضفة الغربية، وعلى الأراضي اللبنانية والسورية واليمنية، ويحذر من أن ثمن السكوت على هذه التجاوزات الدموية سيكون كارثيا، وأن لا مصلحة لأي من القوى الإقليمية أو الدولية في هذا الشرخ العميق الناجم عن تلك الجرائم النكراء، بل إنه قالها بشكل واضح وحاسم ( إن الشرق الأوسط سيواجه مصيرا مظلما إن لم تقم دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران بعاصمتها القدس الشرقية ).
حل الدولتين الذي يطرحه جلالة الملك في هذه الأجواء المشحونة بالشك والغضب يتعدى مفهوم الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني إلى الاختبار الأبعد والأصعب، ذلك المتعلق بالعقلية التي تحكم حاضر ومستقبل إسرائيل والمنطقة على يد رئيس وزرائها الذي أكد جلالة الملك إنه لا يثق بأي كلمة يقولها، ولا بمجموعته التي أوضح أن هدفها هو الصراع الدائم والبقاء في الحكم، أي أن جلالة الملك يؤشر على الأسباب الجوهرية للحرب الراهنة، وللعقلية التي قد تجر المنطقة والعالم نحو المجهول!
لقد أدرك قادة العالم بلا استثناء أن في المنطقة زعيما تعادل حكمته وشجاعته وزعامته هذا التحدي وتتفوق عليه، وحين يصرح الرئيس الفلندي الكسندر ستوب وأمام الرئيس الأميركي ترامب أن الملك عبدالله الثاني زعيم من الشرق الأوسط يستحق جائزة نوبل للسلام فإنه يقول الحقيقة وهو يمثل رأي أوروبا كلها بما فيها دول مجموعة ( ميد 9) التي دعت جلالته ليكون الزعيم الوحيد الذي يشارك من خارج المجموعة في أعمالها المنعقدة في سلوفينيا تقديرا لدوره ومكانته في السياسية الدولية، وكذلك الحال بالنسبة لأمين عام الأمم المتحدة ومنظماتها العديدة الذي يحثه جلالة الملك على أخذ المبادرة من أجل أن تستعيد الشرعية الدولية شرعيتها التي تحطمت أمام الانتهاكات الإسرائيلية والتواطؤ الذي تحظى به من الحليف الأميركي!
للذين لم يدركوا بعد القيمة الحقيقة لموقف بلدنا من كل ما يجري من حولها، أو يظنون أننا نغيب أحيانا عن مشهد ما، فقد آن الأوان لكي نفهم أن حكمة وشجاعة وزعامة قائدنا ليست صفات خاصة بجلالته وحسب، بل إنها مقومات نضال يتعلق بمصير أمة بأكملها تعيش بين خليج ومحيط!