عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Dec-2025

33 صفحة أميركية خطيرة*جمال الكشكي

 الغد

في 5 ديسمبر 2025 ظهرت وثيقة الأمن القومي الأميركية الجديدة، ثلاث وثلاثون صفحة تكشف انتقالا حادا في عقل القوة الأميركية، النص صلب، مباشر، بلا زخارف.
 
 
وثيقة تعلن أن العالم الذي عرفناه منذ 1945 انتهى، وأن الولايات المتحدة تعيد ضبط بوصلتها نحو مجال نفوذ مختلف تماما.
نصف الكرة الغربي يصبح مركز القيادة، الجنوب الأميركي يتحول إلى خط الدفاع الأول، الهجرة غير الشرعية تهديد أمني، تجارة المخدرات خطر إستراتيجي، الاتجار بالبشر ملف صدامي، البحرية وخفر السواحل يمددان نطاق العمليات، البديل واضح: حماية الحدود قبل أي تحرك خارجي، والسيطرة على الممرات البحرية قبل أي مواجهة بعيدة.
الموارد الطبيعية تدخل قلب الحسابات، المعادن النادرة تتحول إلى سلاح نفوذ، الشركات الأميركية تستدعى إلى خطوط التماس الاقتصادية، الاستثمار يصبح أداة أمن قومي، كل خطوة تخضع لمعادلة الربح والتفوق.
الاتجاه الأوروبي يتراجع، القارة العجوز مطالبة بالدفاع عن نفسها، الناتو يفقد القدرة على التوسع، الحليف الأوروبي يواجه واقعا خشنا: لا ضمانات أميركية مفتوحة، ولا سقف حماية بلا مقابل، واشنطن تعتبر أن توقعات أوروبا بشأن الحرب في الشرق الأوروبي مبالغ فيها، المطلوب وقف نار سريع، تسوية صلبة، تجنب التصعيد مهما يكن الثمن.
القارة مطالبة بإعادة بناء جدرانها الدفاعية وحدها، وضبط اقتصادها وفق زمن بارد ومكشوف.
وفي نفس الأسبوع، كانت آسيا ترتب أوراقها، نيودلهي وقعت اتفاقيات واسعة مع الشريك الأوراسي الأكبر، تشمل الطاقة والسلاح والتجارة والموارد الاستراتيجية الرسالة واضحة: مراكز القوة تتحرك خارج المدار الغربي، وتحالفات ما بعد الحرب الباردة تتفكك أمام واقع جديد، العالم لا ينتظر واشنطن، والعواصم الكبرى تعيد توزيع أوزانها عبر أوراسيا والمحيط الهادئ.
الوثيقة الأميركية تضع القوى الآسيوية الصاعدة في قلب التهديد، النمو العسكري تحت المراقبة، التمدد الاقتصادي تحت الفحص، التحرك البحري محسوب بدقة، المناطق المائية جنوب وشرق آسيا تصبح بؤرة توتر، والولايات المتحدة لا تريد حربا، لكنها لا تسمح بوقائع جديدة على الأرض، الوضع في الجزر المتنازع عليها ثابت، التحالفات البحرية مع اليابان والفلبين تتحرك وفق المصلحة فقط.
الشرق الأوسط يخرج من مركز الحدث، الدور الأميركي يتحول إلى مراقبة لا إدارة، الصراعات الإقليمية تعالج بالحد الأدنى، النفوذ الإيراني يخضع للمتابعة لا للمواجهة، إسرائيل تفقد موقعها المركزي في الحساب الأميركي الجديد، المنطقة بلا وصاية واضحة، والفراغ يزداد اتساعا، فيما يتراجع ثقل الملفات التقليدية.
الداخل الأميركي يصبح ساحة الحسم، الهوية الوطنية القديمة تستعاد، الأسرة، الصناعة المحلية، والتعليم التكنولوجي ترتفع إلى مرتبة الأمن القومي، الانقسامات الاجتماعية تعتبر خطرا داخليا  يعادل أي تهديد خارجي، إعادة بناء القوة الاقتصادية شرط لاستمرار النفوذ الدولي.
الوثيقة تفتح باب التحولات الكبرى، القيادة الأحادية تتراجع، القوة تتوزع عبر القارات، أوراسيا تعيد ترتيب موازينها، الهند تقترب من مركز ثقيل، أوروبا تتخلى عن الوهم القديم، الشرق الأوسط يخرج من قلب الخريطة، نصف الكرة الغربي يتحول إلى منصة النفوذ الجديدة.
الصياغة الأميركية قاطعة: الداخل أولا، المجال الغربي ثانيا، بقية العالم يخضع للفرز، التدخلات البعيدة تتقلص، الصراعات الطويلة تستبعد، القوى الكبرى داخل آسيا وأوراسيا تعيد رسم حدود الملعب الدولي، بينما تركز واشنطن على منع أي اختراق يطال مواردها الحيوية.
ثلاث وثلاثون صفحة تكسر الخطاب القديم، الأيديولوجيا تسقط من الحساب، التحالفات التاريخية تفقد قيمتها، معيار القوة يعود، مبدأ المصلحة يصبح المرجع الأعلى، القرن الأميركي يتراجع عن موقعه في السماء، والعالم يدخل مرحلة تعدد الأقطاب بسرعة غير مألوفة.
التوقيت لم يكن عابرا، الوثيقة صدرت في 5 ديسمبر، وفي اليوم نفسه كانت آسيا تشهد ترتيبات تتحدى النفوذ الغربي، خطوط التحالفات تتغير، موازين القوة تتحرك، مراكز النفوذ ترتفع في أماكن لم تكن محسوبة من قبل، نصف الكرة الغربي يتحول إلى ساحة المنافسة الجديدة، حيث الاقتصاد والمواد الخام والممرات البحرية تشكل قاعدة اللعبة.
الوثيقة ليست إعلان نوايا، إنها خطة عمل، الولايات المتحدة تعيد تعريف دورها، وتخفض حدود التورط الخارجي، وتعيد بناء قاعدتها الداخلية، وتحصن نفوذها الاقتصادي، العالم يسير في اتجاه آخر، الأقطاب الجديدة تفرض واقعا مختلفا، أوروبا مضطرة للتكيف، آسيا تزداد ثقلا، الشرق الأوسط يفقد صوته، وأفريقيا تبقى في الهامش.
القواعد الدولية تتحرك تحت الأقدام، التحالفات تتبدل، الموارد الإستراتيجية تصبح خط النار الجديد، القوى الكبرى تعتمد على الاقتصاد والتقنية والجيش، بينما يصبح الخطاب السياسي واجهة لا أكثر.
ثلاث وثلاثون صفحة تلخص روح المرحلة، الولايات المتحدة أكثر واقعية، أقل انخراطا، أكثر حسابا، القوى الصاعدة تتقدم بثبات، النظام الدولي يدخل منطقة عاصفة، المشهد كله يقترب من إعادة تشكيل كاملة،
والنتيجة واضحة: العالم الذي يبدأ بعد 5 ديسمبر 2025 ليس العالم الذي كان قبله.