الجريدة -
الجالية اللبنانية في الكويت بخير، هكذا كانت وإلى اليوم، والباحث في تاريخ هذه الجالية لن يصاب بـ «التوهان» للوصول إلى هذه الحقيقة.
شاركت في مناسبتين أقيمتا على أرض الكويت الحبيبة، الأولى بقيت حبيسة غرفة فندق الشيراتون ولم تظهر في الإعلام، باستثناء السوشيال ميديا، وكانت بمناسبة تكريم رئيس مجلس الأعمال اللبناني الصديق علي خليل، والثانية في وداع العزيز الدبلوماسي الماهر أحمد عرفة.
قبل 110 سنوات، ومنذ وصول أول مغترب لبناني إلى الكويت عن طريق البصرة، وهو منيب الشمالي، تبدلت الأوضاع الاجتماعية وتغيّرت الظروف وشهدت الجالية حالات من المد والجزر، حتى وصلت إلى حدود 45 ألف لبناني يعيشون على هذه الأرض.
تاريخ الهجرة اللبنانية إلى بلاد الاغتراب ليس بجديد، فقد عرفها منذ زمن طويل وباتت مميزة عند اللبنانيين، وهم يتواجدون في أنحاء الكرة الأرضية، وعددهم يتجاوز الـ 14 مليون شخص، أي يزيد على عدد اليهود في العالم.
لفتتني عبارة قالها الأخ علي خليل ليلة تكريمه من قبل راعي كنيسة الروم الكاثوليك في الكويت، «أبونا» بطرس غريب، ساقها في كلمته لفهم معنى الهجرة والاغتراب عند اللبنانيين يوم زار عمه في المكسيك وهو في شبابه، قال له: «يا ابني، نحن لم نأت إلى هنا لنفرض ثقافتنا أو ديننا، مثل أجدادنا، جئنا بحثاً عن التجارة والفرصة والكرامة، احترمت هذه الأرض، تأقلمت مع شعبها، فتطورت أعمالي مع ازدهارها»... هذه هي حال معظم اللبنانيين في بلاد الاغتراب.
وبالمقارنة مع الجاليات الوافدة في الكويت، تبقى الجالية اللبنانية ذات خصوصية، فهي أقل الجاليات المسببة للمشاكل والخروج على القانون، بل يُضرب بها المثل، من كبار المسؤولين في الكويت، على مساهمتها ومحبتها لهذا الشعب وتآلفها معه ومساهمة اللبنانيين في العديد من مفاصل الدولة كشركاء فاعلين ومنتجين.
وبحكم أبحاثي عن تاريخ العلاقات بين الشعبين الكويتي واللبناني، والممتدة إلى عقود متواصلة وما يجمعهما من قواسم مشتركة، قبل أن تأخذ الطابع الرسمي على مستوى الدولتين، بقيت تلمع ذهباً، بالرغم مما أصابها أحياناً من ندوب وجروح.
كانت السفارة ترعى أحوال الجالية عن طريق العمل الدبلوماسي والسفراء المتعاقبين، إنما رافقها على طول الخط «قوى ناعمة» ورديفة عززت من حجم الجالية، وكانت بمنزلة «العضد» الذي يزيدها لُحمة وتآلفا وتعاوناً. أذكر أسرة آل الحص الذين تحولوا إلى ما يشبه عمل السفارة قبل أن تؤسَّس العلاقات الرسمية، كذلك مع رجالات لبنانيين كانوا خير العون لأي سفير يُعيّن هنا.
ولا تخلو أحوال الجالية اللبنانية هنا من مطبّات تظهر بين وقت آخر، وتتأثر بوضع لبنان السياسي والانقسامات التي عرفها والنزاعات التي حكمته، لكنها سرعان ما تلتئم جراحها، خاصة عندما يتوافر عمل السفارة والسفير ويتكامل مع «القوى الناعمة» التي تدعمه.
ما لمسته على مدى الـ 50 عاماً من عمري الذي عشته في الكويت أنها شهدتْ أياماً زاهية بالتناغم الذي أوجدته الجالية، عبر مجالس الأعمال والكنائس وممثلي الأديان المسلمين، ورجال الأعمال والسيدات.
أزهى الصور تلك التي رأيتها يوم تكريم الصديق علي خليل، والذي وصفه أحد رجالات الجالية، وهو الأخ محمد ناجيا، بقوله: «ليس مجرد اسم في عالم المال، بل هو نموذج للرجل الهادئ في حضوره، الرصين في أدائه، الصادق في التزامه».
بل كان كما قدّمه الأرشمندريت بطرس غريب، باسم النيابة البطريركية للروم الكاثوليك، من أولئك الذين يعملون بوصية السيد المسيح «متى صنعت صدقة، فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك»، فقد كان «مثالاً للإنسان المتجاوز للدين والمذهب».
نودّع الحبيب والدبلوماسي الماهر الأستاذ أحمد عرفة، بعد قرار نقله إلى نيويورك لتمثيل بلاده في الأمم المتحدة، والذي كان بحقّ «الوجه المضيء» للبنان، حمل رسالته بقيمه الأصيلة وإنسانيته اللافتة.