عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jul-2025

الحرب على البقاء: استخدام الجوع كوسيلة تهجير*د. حسن عبد الله الدعجة

 الغد

تحولت المجاعة في قطاع غزة منذ أواخر العام 2023 إلى أداة حرب ممنهجة تُستخدم بقصد التهجير القسري للسكان، وسط حصار شامل اشتدّت حدته مع بدء العدوان الإسرائيلي في تشرين الأول (أكتوبر) من ذلك العام. هذا الحصار الذي بلغ ذروته في آذار (مارس) 2025، أدى إلى حرمان كامل للسكان من المواد الغذائية والطبية الأساسية، إلى جانب تدمير واسع للبنى التحتية الحيوية مثل المستودعات والصوامع والمخابز، مما أدى إلى شلل كامل في سلاسل التوريد والإمداد. نتيجة لذلك، انهار النظام الغذائي بشكل شبه تام، واندلعت أزمة معيشية غير مسبوقة أثرت على جميع مناحي الحياة اليومية. ارتفعت أسعار المواد الأساسية بنسبة تجاوزت 3000 %، ما جعل الغذاء متاحا فقط لفئات محدودة من السكان القادرين على تحمل هذه التكاليف الباهظة. وفي الوقت ذاته، دخل مئات الآلاف من السكان في مرحلة الجوع الكارثي، مع مؤشرات متسارعة على انتشار المجاعة والموت البطيء، مما يُظهر أن الحصار لا يستهدف فقط البنية التحتية، بل حياة الإنسان نفسه كأداة للضغط والتهجير القسري.
 
 
وفقاً للتقارير الإنسانية، فإن جميع سكان قطاع غزة -البالغ عددهم نحو 2.2 مليون نسمة- يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بسبب الحصار المشدد وتقييد دخول المساعدات. ويواجه نحو 470 ألف شخص ظروفا مصنفة في المرحلة الخامسة (IPC 5)، تعني "المرحلة 5" في التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، وهي أعلى مرحلة في التصنيف. تُعرف هذه المرحلة بـ"الكارثة" أو "المجاعة"، وتشير إلى وضع حاد حيث يعاني ما لا يقل عن واحد من كل خمسة أسر من نقص حاد في الغذاء والمجاعة، مما يؤدي إلى مستويات حرجة من سوء التغذية الحاد والوفاة -وهي المرحلة الأشد من الجوع الكارثي، التي تعني خطرا وشيكا بحدوث مجاعة وموت جماعي بسبب الجوع. وتشير الإحصائيات الميدانية إلى أن أكثر من 71 ألف طفل و17 ألف أم يعانون من سوء تغذية حاد، ويحتاجون إلى تدخلات علاجية عاجلة لإنقاذ حياتهم. وقد تضاعفت معدلات سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة بشكل مقلق؛ حيث ارتفعت من 5.5 % في آذار (مارس) 2024 إلى 10.2 % بحلول حزيران (يونيو) 2025، ما يعكس انهيارا متسارعا في الوضع الصحي ويهدد مستقبل جيل كامل من الأطفال في القطاع المحاصر. 
 
في ظل هذا الوضع الكارثي، ارتفعت أعداد الوفيات بين الأطفال الرضع بشكل صادم نتيجة الجوع والجفاف؛ حيث تُسجَّل يوميا عشرات حالات الوفاة، خصوصا في مناطق النزوح جنوب القطاع. وتشير البيانات الميدانية إلى وفاة أكثر من 3,500 طفل دون سن الخامسة منذ بداية العام 2024 بسبب سوء التغذية الحاد والجفاف، بينهم نحو 710 رضع تقل أعمارهم عن عام واحد. كما تم تسجيل أكثر من 62 ألف حالة وفاة مرتبطة بالمجاعة خلال عام واحد فقط، غالبيتهم من الأطفال والنساء. ويضاف إلى ذلك وجود أكثر من 12 ألف إصابة بسوء التغذية الشديد بين الأطفال، نصفهم في حالة حرجة تهدد حياتهم. ومع خروج 27 مستشفى من أصل 35 عن الخدمة وتدمير نحو 70 % من المرافق الصحية، لم تعد المستشفيات قادرة على استقبال الحالات، ما فاقم من أعداد الوفيات بشكل يومي.
أما على مستوى الترحيل، فقد تم تهجير قسري لما يقارب 1.9 مليون شخص -أي أكثر من 90 % من سكان قطاع غزة- نحو مناطق ضيقة في الجنوب لا تتجاوز مساحتها 12 % من مساحة القطاع، وذلك تحت تهديد القصف المكثف وانعدام مقومات الحياة الأساسية. وقد تم تنفيذ هذا النزوح على مراحل قسرية، شملت أوامر إخلاء جماعية متكررة، ما أدى إلى تكدس السكان في مخيمات ومناطق غير مهيأة للسكن. وفي الوقت ذاته، ظلت أكثر من 116 ألف طن من المساعدات الغذائية والإنسانية عالقة عند المعابر، من دون إذن بالدخول، رغم تصاعد المناشدات الدولية لفك الحصار وتسهيل الإغاثة.
هذا المشهد المأساوي لا يمكن فصله عن السياسات المتعمدة والمنهجية التي تهدف إلى دفع السكان الفلسطينيين في قطاع غزة نحو الخروج القسري من أرضهم. فالجوع المتفشي، وانعدام الغذاء والدواء والماء، ليسا مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل أصبحا سلاحا استراتيجيا توظفه القوة القائمة بالاحتلال ضمن خطة أوسع لتفريغ غزة من سكانها، وإحداث تغيير ديموغرافي جذري. هذه الخطة تقوم على ثلاثية مدمرة: التهجير القسري، الإفقار المتعمد والموت البطيء. إذ يتعرض السكان إلى ضغوط متراكمة ومقصودة، تبدأ بتدمير منازلهم ومنشآتهم، مرورا بحرمانهم من أبسط مقومات الحياة، وانتهاء بدفعهم نحو خيارات مستحيلة بين البقاء تحت الحصار والجوع أو الهروب من الجحيم.
ما يجري هو حرب إبادة بصيغة غير تقليدية، لا تعتمد فقط على الرصاص والقنابل، بل على سياسة "التجويع حتى الخضوع"، حيث تُستخدم أدوات الموت البطيء لتقويض البنية المجتمعية والنفسية للشعب الفلسطيني. إنها عملية ممنهجة لكسر الإرادة الجماعية وفرض الاستسلام، هدفها الأساسي إرغام السكان على الرحيل تحت وطأة الفقر، والعطش، والجوع، وسط تجاهل دولي مريب وصمت دولي يقترب من حدود التواطؤ، يتحول الجوع في غزة من أزمة إنسانية مؤقتة إلى أداة ممنهجة للتطهير السكاني. هذه السياسة مكتملة الأركان تستهدف القضاء على الوجود الفلسطيني بشكل تدريجي عبر التجويع والإفقار الممنهج، من دون تدخل فعال لإنقاذ الأرواح.