حين وقع حريق المسجد الأقصى، كنت في القدس، وكان صباح الحادي والعشرين من آب اغسطس صباحاً حزيناً، فقد أقدم إرهابي يهودي بالتسلل الى المسجد القبلي، (يسميه الناس تجاوزاً المسجد الأقصى)، وهو قبالة مسجد قبة الصخرة، وهو مايكل حرهان، باشعال حريق في المسجد الأقصى، أستهدف المنبر واجزاء أخرى، وقع الحريق في السابعة، كنت أنزل في فندق صغير في باب العمود، وقد سمعنا أصوات سيارات الاسعاف ونداءات بدأت تتدفق مع مآذن القدس وتحديداً من المسجد الأقصى الذي وصلت اليه سيارات الاطفاء متأخرة، كما وصلت اليه سيارات اسعاف ومواطنون ايقظهم الحادث، دخلت المسجد الذي انتشرت في انحائه قوات الاحتلال والشرطة الاسرائيلية لتسد كل مداخلة واستطعت ان اصل الى المسجد وان اتجاوز نقطة الحاجز.

 

كان قد سبقني للمكان كثير من الناس والشباب الذين كانوا يواصلون عملية الاطفاء والانقاذ وإعادة الوضع الى ما كان عليه، دخلت ورأيت الدخان ما زال يتصاعد ورائحة الحريق تزكم الانوف، وقد جرى عزل منطقة المنبر الذي تساقطت اجزاؤه من الحريق الذي جاء عليه.

 

الحريق التهم المنبر والقبة التي فوقه بالاضافة الى المحراب والمصلى والسقف من الجهة الشرقية، كما أصاب قبة الجامع الأثرية المصنوعة من الفضة الخالصة اللامعة، وقد استمرت عملية الاطفاء حتى المساء.

 

كنت سأتوجه الى الجامعة الأردنية التي حصلت على قبول للدراسة فيها ابتداء من 1 / 9 / 1969، وقد حملت ذكريات ذلك لزملائي الطلاب، وما زلت اذكر قتامة ذلك اليوم وشؤمه.

 

وقد ارتبطت صورة بصورة لوزير الحرب الاسرائيلي موشي دايان، يتجول مع جنود الاحتلال في ساحة المسجد بعد احتلاله وسط مظاهرة أخرى يهودية من متطرفين كانت تهتف على مسامعنا، (محمد مات وخلف بنات)، تلك الذكريات انطبعت في المخيلة والوجدان.

 

عدت الى الفندق وبدأنا نتعرف لردود الفعل العربية والعالمية على الحريق، كانت جريدة المنار المقدسية قد نشرت الخبر وصوراً له والمنار، لاحقاً كانت جزءاً من جريدة الدستور الاردنية التي أسسها أولاد الشريف رحمهما الله، كامل ومحمود الشريف، وكانت الدستور قد تكونت من اتحاد صحفيتي فلسطين والمنار في 2/ 3 / 1967.

 

كان الحزن على حريق منبر صلاح الدين، يلف القدس وفلسطين والعالم العربي والاسلامي، وكانت اسرائيل تتوقع ردود فعل قوية، ولكن ذلك لم يحدث وقالت يومها رئيس وزارء دولة الاحتلال، جولدا مائير تعليقاً "لم أنم تلك الليلة وانا اتخيل العرب سيدخلون اسرائيل افواجاً من كل صوب، لكن عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء، أدركت انه بامكاننا فعل ما نشاء

 

ولكن الأمة استيقظت ودعت الى اجتماع على مستوى القيادات العليا وشكلت منظمة المؤتمر الاسلامي للرد على التحدي وهذه المنظمة ما زالت قائمة، وقد ضمت في عضويتها جميع الدول الاسلامية، وكان الملك فيصل بن عبد العزيز هو صاحب فكرة الانشاء.

 

منعت اسرائيل باحتلالها عميلة الانقاذ بالاطفاء وكان الحريق في جزء منه، وقد جاء من الخارج من الزاوية الجنوبية الغربية من الجامع القبلي، وقطعت بعد ذلك المياه ... عن المنطقة المحيطة بالمسجد الاقصى في نفس يوم الحريق، مما يدل على ان الجريمة التي ارتكبت كان فيها ترتيب اسرائيلي رسمي، مما دفع أن تأتي سيارات الاسعاف من الخليل ورام الله، قبل وصول سيارات الاسعاف الاسرائيلي في القدس نفسها.

 

وكان من تداعيات الحريق التي كتبت عنها في كتابي عن المسجد الأقصى مهفى القلوب، مظاهرات عمت العالم العربي والقدس، وعقد أول مؤتمر قمة اسلامي في مدينة الرباط عاصمة المملكة المغربية.

 

المنبر الشهير والتاريخي الذي عطلت عنه الخطب طوال تسعين عاماً هي فترة احتلال الفرنجة (الصليبيون) للقدس أسماه العامة منبر صلاح الدين، والحقيقة انه منبر نور الدين زنكي، استاذ صلاح الدين وقائده، وكان قبل وفاته اوصى بأن تكون العقيدة القتالية لإماراته التي حاربت الفرنجة والفاطميين، هي حرب الفرنجة واستمرار الجهاد ضدهم حتى تحرير القدس، وان ذلك لن يحصل في التاريخ كما يقول نور الدين زنكي، واسمه (محمود) الاّ بوحدة بلاد الشام ومصر، وقد سعى لذلك ونجح فيه، وأوصى ان ينقل المنبر الذي أمر نور الدين زنكي ان يصنع في حلب الى القدس، وقد استغرقت رحلة وصوله عشرين سنة الى ان نقل ونصب في المسجد الأقصى، وصلى من على المنبر في الجمعة الأولى في رجب من ذلك العام من الذين دخلوا القدس مع صلاح الدين الأيوبي، أهل القدس والمنطقة، وقد قال صلاح الدين يومها، أن فضل التحرير جاء أيضاً ليس من المجاهدين فقط، ولا من سيوفهم، وإنما قلم القاضي الفاضل ... لدور الأدب والفكر والشعر في معركة التحرير.

 

ويوم أمر (محمود) نور الدين زنكي بصناعة المنبر، وذكر احتلال القدس، اغرورقت عيناه بالدمع وانكب راكعاً يمرغ وجهه ويدعو للنصر، فقال له الحضور لندعو الله بالنصر لك فقال لا، سأباشر القتال بنفسي وامتطى فرسه، كما جاء في تاريخ الكامل لابن الأثير فقال له قطب الدين النيسابوري، بالله يا مولانا لا تخاطر بنفسك،

 

لو قتلت قتل جميع من معك، فقال له اسكت يا قطب الدين، فإن قولك إساءة مع الله

 

ومن هو محمود، يقصد نفسه، من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا اله الا هو ومن هو محمود، الكلب حتى ينصر، يا رب لا تمنع النصر عن المسلمين بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر، يا رب انصر دينك ولا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتي ينصر، وكان نور الدين درساً وعبرة للقادة عشية تحرير القدس.

 

المسجد الأقصى ما زال امانة في الوصاية الهاشمية وما زال في الحماية الاردنية التي تنفق على أوقافه والمنبر أعاد الأردن صناعته في مدينة السلط على يد أمهر المهندسين وبنفس تكوين منبر نور الدين زنكي، وقد نقل الى المسجد الأقصى وما زال يزينه حتى الآن ونحن جميعا نفتخر ذلك ...