الراي
توقفت الحرب، لم تنتهِ، ليس ثمة نهاية للأحداث، ولا تسويات عميقة لأسس وبواعث الصراع، المنطقة انهكت تماما، والتعب أنشب مخالبه لدى جميع الأطراف، الدمار فوق حدود الاحتمال، والموت لم تكتمل معالمه بعد، والواقع الماثل بالغ التعقيد والتشابك، والقادم مثقل بالغموض والاحتمالات المتضاربة، لا بوصلة ولا نجم يستهدى به، الأمور تمشي لنهايتها مغلوبة على أمرها، وما من شكل واضح لهذه النهايات إن كانت نهايات بالفعل، ما جرى في المنطقة منذ ثلاثة عقود على أقل تقدير، كان مفزعا ومربكا وتميز بوتيرته المتصاعدة وحلقاته غير المنتهية، ليس المنطقة بأسرها من تغير فقط، بل إنسان هذه المنطقة تشوه وتضاد في نفسه ومع محيطه، ثمة حالة من اللايقين تستفحل لدى النخب والمجتمعات، حالة تتعمق مع استعصاء الحلول العادلة، فتنهض الأفكار المتطرفة، وينمو العنف داخل المجتمعات، فتتكاثر الهويات الفرعية، والإثنيات المتناحرة، وتشطر المجتمع الطوائف والمذاهب، وتمزق الدولة مليشيات تَبني ولاءات خارجية، وتستجيب لأجندات الممولين أصحاب المشاريع غير الوطنية.
هناك صمت يجثم على المنطقة الآن، ليس هدوءا ولا سكوتا، لكنه صمت ثقيل، مشوب بالقلق والمخاوف الكثيرة، ما الذي سيحدث؟ ومتى سيحدث؟ وإلى أي مآل نحن ماضون؟ وكثير من الأسئلة تتناسل، فما حدث هو ليس كل ما يجب أن يحدث، وما ظهر من الأمور قليل مما بطن، ثمة ما هو خلف الأكمة من خطط ومخططات، وهذا أمر ليس جديدا على المنطقة منذ أكثر من مئة عام، لكن الجديد مساحة الغموض الشاسعة، وضعف المنطقة وهشاشتها واليقين من سوء نية القوى المتجبرة. لا نستطيع أن نقول أن المنطقة خرجت من دوامة وتتحضر لأخرى أشد فتكا، بل هي الدوامة ذاتها، ذات فصول ملاحقة ومتدافعة، ورغم أن اللعب يكون مكشوفا بشكل لافت، إلا أن المسكوت عنه هو المثير للريبة والقلق، فليس ثمة خطة مكتملة الأركان معلنة، لكن عنجهية العناوين الكبيرة هي ما ينبئ بشيء ولا يفصح عنه، كأن يقال شرق أوسط جديد، بناء وجه جديد للشرق الأوسط، سيكون هناك شرق أوسط لا يشبه الشرق الأوسط الحالي، عناوين كبرى تزدحم وزخم التغيرات كبير ومتسارع.
سوريا تبتعد أكثر عن صورتها القديمة، لبنان يدخل دوامة التغيير بخطى تبدو ثابتةرغم المصاعب، وحزب الله يتمترس بالخطابات التي بدت خارج الزمان والمكان، حماس تلوح بتسليم السلاح والتلاشي شيئا فشيئا، وإيران تنكمش بسرعة نحو حدودها السياسية، وتستعد لما هو أسوأ، وترامب يطلب توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية، في حين أن آفاق غزة اليوم ملبدة بالغيوم الداكنة، ومستقبل غزة شديدة الغموض، لا شيء واضح، لا شيء يمكن التيقن من قراءته، ونتنياهو يبدو بلا مستقبل في ظل كل هذه التحولات، فإلى أين تتجه إسرائيل دون نتنياهو الذي صبغ إسرائيل بصبغته قرابة ثلاثة عقود ثقال، وما مستقبل اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية؟، حتى سكان إسرائيل لا يعرفون أين تتجه بهم المراكب، وعلى أي شواطئ ستلقي بهم الخطط والمخططات المخبأة.
أن التوجس واللايقين هما الأكثر حضورا في ساحات المنطقة الشرق أوسطية، دائما ما نقول أن الغرب/ أمريكا لا يمتلكون خططا طويلة المدى، لكن الواقع المُر الذي مَر يثبت غير ذلك، فكثيرا يكون ما نعتقد أنه لاخطة هو خطة بحد ذاتها، وما جرى في المنطقة منذ حرب الخليج الأولى يثبت ذلك، كل ما في الأمر أن ما يدبر غير معلن عنه بشكل متكامل، إنما كل مرحلة تقود إلى الأخرى بشكل أو بآخر، ويبقى الزمن هو الكفيل بتعرية الأكمة لنرى ما خلفها، وقد نكون حينها قد تأخرنا كثيرا.