"احتضن طفلك الداخلي".. ترند يوقظ الحنين ويختزل العمر في صورة
الغد-تغريد السعايدة
"يترك المرء جزءا منه ثمن كل تجربة، لذا يحن حين ينظر إلى صور الطفولة، حين كان كاملا"؛ مقولة فيها الكثير من المشاعر التي يتركها المرء في كل صورة، الأمر الذي أفرز الكثير من الأحاسيس، وبدا جليا في الترند الأخير الذي ملأ مواقع التواصل الاجتماعي فيما يسمى "احتضن طفلك الداخلي".
وتستمر تقنيات الذكاء الاصطناعي بإبهار رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين باتوا الآن "أسرى" للترند الجديد، والذي يقوم من خلاله الشخص بدمج صورته في الطفولة مع هيئته الحالية ليشكل "صورة حضن" فيها الكثير من الحنين والرمزية.
تلك الرمزية التي تبادلها الكثيرون وشاركوا صورهم عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، حينما تتيح لهم التكنولوجيا أن يحتضنوا أنفسهم "يطبطبون عليها". وربما فيه الكثير من الفخر، والحزن تارة أخرى. وما إن يقوموا بنشر الصورة، حتى يرافقها الكثير من حديث النفس وذكريات سنوات تختصر في لحظات.
أحد المواقع المتخصصة بالتعريف بالتقنيات الذكية الجديدة أشار عبر منشور له إلى أن عملية دمج صورتين بالذكاء الاصطناعي باحتضان باتت منتشرة، وهو ما يعكس "طريقة دافئة للتواصل مع الأشخاص، سواء العناق مع نسختهم الأصغر سنا في الماضي، أو مع من يعيشون بعيدا، أو حتى مع راحلين".
يوفر الذكاء الاصطناعي العديد من الأدوات التي تتيح لرواد التواصل الاجتماعي القيام بنشاطات "رقمية" غير معتادة، والاستمتاع بها، رغم خطورة بعضها والحاجة إلى تقنينها ذاتيا وقانونيا. ومن تلك الأدوات الأخيرة تطبيق "HugAI.app"، وهو تطبيق يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحويل الصور الثابتة إلى مقاطع فيديو ديناميكية، مما يتيح للمستخدمين حضن صورتين بطريقة سهلة وقريبة من الواقع.
سارة الحيالي كتبت عبر حسابها تقول إن ما نشاهده الآن يسمى بـ "تمرين احتضان طفلك الداخلي"، والذي ترى أنه أول خطوة في الوعي والاعتراف بكم الذكريات التي تمر بنا وما تتركه من أثر في النفوس.
وتطلب سارة ممن يستخدمون هذا الترند أن يقوموا بكتابة مشاعرهم إزاء ما يشاهدونه من أنفسهم وهم يحضنون طفولتهم، سواء مشاعر الإهمال أو القسوة بالكلام أو المقارنة مع الغير، حتى يتمكن الشخص من مواجهة نفسه.
كما ترى سارة أنه من الجيد أن يستحضر الشخص موقفا أو ذكرى من طفولته، ويقوم بتخيلها وهو يشاهد تلك الصورة أمامه، والتعرف على ما يحتاجه ذلك الطفل في ذلك الحدث: هل كان يحتاج في ذلك الوقت إلى الاحتضان والاحتواء؟ ثم يتخيل توفير الأمان له في تلك اللحظة، وهذا من شأنه أن يساعد على "بناء الأمان الداخلي لأنفسنا الآن".
وبالرغم من أن نسبة كبيرة من أصدقائه استخدموا الترند وتبادلوه فيما بينهم بطريقة فيها الكثير من الطرافة، إلا أن (رائد) لم يجد فيه متعته، ولم يحاول أن يسترجع صوره القديمة، كونها مرتبطة بالكثير من الذكريات الحزينة. عدا عن أنه فقد نسبة كبيرة من صور الطفولة لديه بعد أن انتقل من دولته بسبب الحرب، واستقر في دولة أخرى. لذلك لا يحمل صور طفولة ولا ذكريات جميلة مرتبطة بها، ويكتفي بالمشاهدة، على حد قوله.
بيد أن نجوى حمد، التي نشرت صورتها كذلك وهي تحتضن نسخة مصغرة منها، كانت، وفق منشورها، قد شعرت بالكثير من الحزن، وتقول؛ "ربما على الذكريات الحزينة التي مرت بها عائلتها خلال سنوات طويلة من حياتها، على الرغم من أنها الآن تعيش حياة جميلة ولديها أسرة وأبناء، لكنها شعرت بأنها بحاجة إلى احتضان هذا الحزن المزدوج، سواء وهي صغيرة أو كبيرة".
وتصف بأنها الآن بحاجة أن يحتضنها ماضيها ويمنحها القوة، كما أنها في المقابل تتمنى العودة إلى الماضي واحتضان نفسها وهي طفلة، ومنحها أيضا القوة بأن "المستقبل جميل وينتظرها الكثير من النجاحات"، على حد تعبيرها.
صورة الاحتضان تلك لم ترغب سيلا أحمد أن تقوم بدمجها مع طفولتها، بل تعمدت أن تكون مع والدها الذي تفتقده كثيرا منذ وفاته قبل عدة سنوات، وكتبت تقول: "على الرغم من كونه ترندا وسوف يمر سريعا، إلا أنه أثر في داخلي كثيرا عندما جمعني مع من أحبه وأفتقد حضوره، وتضيف: "الدنيا قصيرة جدا، استمتعوا بالحياة سويا".
تبين الاستشارية النفسية والأسرية المختصة بعلم النمو الدكتورة خولة السعايدة أن الحنين إلى الماضي شعور إنساني طبيعي يتجذر في داخل كل فرد، وهو انفعال إيجابي يمنح المرء راحة نفسية ودفئا داخليا كلما استحضره. والإنسان بطبيعته يسعى بين الحين والآخر إلى إثارة مشاعره وانفعالاته بطرق شتى.
ومن تلك الطرق، وفق السعايدة، من يركب الأمواج طلبا للتحدي، ومن يشاهد أفلام الرعب ليجرب الخوف والدهشة، وآخرون يمارسون أنشطة مختلفة لإشباع فضولهم العاطفي.
وحين ظهر ترند الصور، انجذب الناس إليه أولا بدافع الفضول، كما تقول السعايدة، ووجدوا فيه ما يحرك أعماقهم من مشاعر محببة، على رأسها الحنين إلى الطفولة، وهي مرحلة ترتبط في ذاكرتنا غالبا بمشاعر الأمان، ورعاية الوالدين، وغياب الضغوط والمسؤوليات.
وتعتقد السعايدة أن الذاكرة البشرية بطبيعتها انتقائية؛ فهي تصفي أحداث الماضي وتبقي على اللحظات الجميلة وتهمل التفاصيل المؤلمة، ولهذا السبب كثيرا ما نسمع الناس يقولون: "أيام الطفولة كانت الأجمل". وإذا سئل أحدهم: هل تتمنى أن تعود طفلا؟ يجيب في الغالب: "نعم، أتمنى ذلك". ليس لأن الطفولة خلت من المنغصات، بل لأن ذاكرتنا الإنسانية تحفظ منها الأجمل، وتترك لنا صورة نقية تبعث فينا الأنس والطمأنينة.
والحنين إلى الماضي، أو ما يعرف بـ"النستولوجيا"، شعور طبيعي يحمله الإنسان في داخله، بحسب السعايدة، وهو في جوهره شعور إيجابي يمنح المرء نوعا من الراحة النفسية كلما استُثيرت ذكرياته الجميلة.
ومن هنا جاء ترند الصور؛ إذ فتح نافذة عاطفية للناس كي يعودوا لتلك اللحظات. فبعضهم يستحضر صور الطفولة فيسترجع معها دفء البيت واهتمام الوالدين، وبعضهم يعيد صور أحبة رحلوا، كأن يضيف صورة والده المتوفى إلى لحظة تخرجه ليملأ فراغا عاطفيا كان يتمنى أن يعيشه معهم، كما تبين السعايدة.
وهناك أيضا من يضع صورته بجانب شخصية مشهورة يحبها أو يعجب بها، ليشعر وكأنه يعيش لحظة قرب حقيقية، وكأن الصورة تحول أحلام اليقظة إلى شيء ملموس وواقعي.
ومن اللافت، وفق السعايدة، أن هذا الترند تزامن مع فصل الخريف، الذي يسميه الكثيرون "فصل الحنين". ففي هذا الوقت من السنة، حين تتساقط الأوراق وتغدو الأجواء أكثر هدوءا، تميل النفس بطبيعتها إلى استحضار الذكريات والتأمل في الماضي.
ووفق السعايدة إنه ومع أن لهذه الصور والذكريات جوانب إيجابية كثيرة: كإثارة مشاعر جميلة، وإشباع بعض الفراغات العاطفية، وإحياء روابط وجدانية مع الماضي، إلا أنه لا بد من التنبيه إلى الجوانب السلبية المحتملة؛ فقد يواجه بعض الأشخاص إحباطا حين يتذكرون أن من يظهر معهم في الصورة لم يعد موجودا فعلا، أو حين يقارنون حاضرهم بماضيهم فيشعرون بخسارة أو خذلان.
لذلك، يبقى الحنين جميلا ما دام في حدوده الطبيعية: ذكرى لطيفة، ومشاعر دافئة، ولمسة خفيفة على القلب. أما حياتنا الحقيقية فهي في الحاضر، ولا ينبغي أن نغرق في الماضي أو نسمح لذكرياته أن تعيق سعادتنا اليوم.