الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
جيفري د. ساكس؛ وسيبيل فارس* - (كومون دريمز) 11/10/2025
ليست الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة سوى تصعيدٍ لسلوكٍ إسرائيليٍّ متواصل -إنها، بحسب تعبير المؤرخ رشيد الخالدي، "استمرار للتطهير العرقي". وتهدف هذه الاستراتيجية المستمرة منذ عقود، والمعروفة باسم "جزّ العشب" -أي القتل الجماعي الدوري- إلى تعزيز الهدف الإسرائيلي المتمثل في السيطرة الدائمة على كامل فلسطين المحتلة، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، كما وعد ميثاق "حزب الليكود" الأصلي في العام 1977.
في جزء منه، يجيء وقف إطلاق النار الحالي في قطاع غزة كنتيجة لعملية حسابية قاتلة بسيطة. بالتحديد، وصل سفك إسرائيل للدماء إلى هدفه العددي، ولذلك وافقت إسرائيل أخيراً على وقف لإطلاق النار.
بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أعلن رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، أهارون هليفا، أنه مقابل كل إسرائيلي قتل "خمسون فلسطينياً يجب أن يموتوا". وبما أن نحو 1,275 إسرائيلياً لقوا حتفهم نتيجة الهجوم في ذلك اليوم، فقد أصبحت "كوتا" إسرائيل من القتل الجماعي حوالي 63,750 (= 50 × 1,275). وقد تم بلوغ هذا الرقم في الأسابيع الأخيرة، بحسب وزارة الصحة في غزة، وكما أفادت الأمم المتحدة. وعندما يُرفع الركام ويُجري خبراء الأوبئة عملهم التفصيلي، من المرجح أن يصل عدد الضحايا في الواقع إلى مئات الآلاف، بمن فيهم أولئك الذين ماتوا بسبب نقص الرعاية الطبية، والتجويع، وسائر أشكال الحرمان من مقومات الحياة الأساسية الأخرى.
إن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية. وقد وثّقت الأمم المتحدة ذلك توثيقاً شاملاً، وأكدته "الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية". فما هو الأساس الذي أقيمت عليه هذه الحملة الإسرائيلية الدنيئة؟ ثمة في الحقيقة سببان مترابطان.
السبب الأول هو أن القتل الجماعي كان أداة الخيار المفضلة للمجتمعات الاستيطانية الاستعمارية مثل إسرائيل. في كتابها الأخير المعنون "أسموه سلاماً" They Called it Peace، تشرح المؤرخة لورين بينتون كيف استخدم المستوطنون الاستعماريون القتل الجماعي والإرهاب كآليتين للسيطرة. وتكتب بينتون أن المستوطنين الاستعماريين:
"كانوا يتصورون السلام لا باعتباره انتهاءً للعنف، وإنما باعتباره فرضاً للنظام من خلال الخوف والعقاب".
وتكتب في موضع آخر: "كانت الحملات العقابية وعمليات القتل الجماعي تُبرَّر باعتبارها أدوات لتأديب السكان وضبطهم، وكسر مقاومتهم، وجعل المهزومين خاضعين ومفيدين على حد سواء".
تتبع الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل في غزة، وضمّها للضفة الغربية المحتلة، هذا المنطق الاستعماري الاستيطاني بالضبط. وتهدف إسرائيل إلى إرهاب الفلسطينيين وكسر إرادتهم -وكل ذلك في سبيل تحقيق الهدف الأقصى المتمثل في القضاء على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية. لم يكن ما أراده هاليفا ومن هم على شاكلته أكثر من أي شيء آخر هو هزيمة حماس، ولا تحرير الأسرى (وهو ما كان يمكن تحقيقه عن طريق المفاوضات). كان ما أرادوه هو تلقين الفلسطينيين والمجتمع الدولي درساً. بالنسبة للفلسطينيين، الدرس هو أنهم يجب ألا يتحدوا مُحتلّهم أبداً. والدرس بالنسبة لبقية العالم هو أن إسرائيل فوق القانون الدولي، حتى وهي ترتكب جريمة إبادة جماعية.
السبب الثاني، والمرتبط بالسبب الأول، هو التفسير الحرفي لـ"العهد القديم" لدى جزء من الحكومة والمجتمع الإسرائيليين، وهو تفسير يعتنق أخلاق القرن العاشر قبل الميلاد وليس أخلاق القرن الحادي والعشرين. ويضم "العهد القديم" العديد من الروايات التي يأمر فيها الله بعمليات إبادة جماعية، ويستشهد نتنياهو وزملاؤه بهذه القصص التوراتية لتبرير القتل الجماعي.
على سبيل المثال، استدعى رئيس الوزراء نتنياهو، بطريقة مرعبة، القصة التوراتية القديمة عن عماليق. وقد وردت قصة عماليق في سفر الخروج، الإصحاح 17، حيث يهاجمون بني إسرائيل في البرية. ولاحقاً، في سفر صموئيل الأول، الإصحاح 15، يأمر الله الملك شاول، من خلال النبي صموئيل، بما يلي: "فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرِّموا كل ما له"، أي أن يدمر عماليق ويُبيدهم جميعاً: الرجال والنساء والأطفال والرضّع والثيران والغنم والجمال والحمير. وعندما يقتل شاول رجال العماليق لكنه يأخذ الملك أجاج أسيرًا ويُبقي على بعض الحيوانات حية، فإن الله يدينه لفشله في تنفيذ أمر الإبادة الكاملة. بل إنه يفقد مُلكه في الحقيقة لأنه لم يرتكب إبادة تامة وشاملة. هذا هو النص الذي يختاره نتنياهو كمرجع له!
كانت الصلة بين عنف المستوطنين الاستعماريين والإبادة الجماعية في "العهد القديم" دائماً أوثق وأكثر مباشرة مما تبدو. لطالما رأى المستوطنون الاستعماريون أنفسهم في كثير من الأحيان على أنهم "إسرائيل الجديدة" -في أميركا الشمالية، وجنوب أفريقيا، وبالطبع في إسرائيل (وفلسطين المحتلة) اليوم. ولا ينبع عنفهم فقط من رغبتهم في إخضاع الشعوب الأصلانية، بل أيضاً من إيمان تفوّقي بامتلاك حقٍّ إلهيٍّ مزعوم في التصرف على هذا النحو.
ليست الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة سوى تصعيدٍ لسلوكٍ إسرائيليٍّ متواصل -إنها، بحسب تعبير المؤرخ رشيد الخالدي، "استمرار للتطهير العرقي". وتهدف هذه الاستراتيجية المستمرة منذ عقود، والمعروفة باسم "جزّ العشب" -أي القتل الجماعي الدوري- إلى تعزيز الهدف الإسرائيلي المتمثل في السيطرة الدائمة على كامل فلسطين المحتلة، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، كما وعد ميثاق "حزب الليكود" الأصلي في العام 1977. ولتحقيق هذا الهدف، يلتزم نتنياهو وحلفاؤه بسياسة الطرد العرقي والقتل أو القمع الشديد لما يقرب من سبعة ملايين ونصف المليون فلسطيني يعيشون في المنطقة التي يسمونها "إسرائيل الكبرى".
وحتى مع وقف إطلاق النار، وحتى لو تم نزع سلاح "حماس"، لن توافق إسرائيل على قيام دولة فلسطينية إلى جانبها. وقد أوضح نتنياهو ذلك بشكل قاطع في خطابه أمام "الجمعية العامة للأمم المتحدة". وقال إن الكنيست صوّت بأغلبية ساحقة ضد حل الدولتين، حيث عارضه 99 نائباً من أصل 120، وهو ما يعكس موقف أكثر من 90 في المائة من الإسرائيليين. وصرّح بوضوح قائلاً: "إن معارضتي لإقامة دولة فلسطينية ليست مجرد سياسة لي أو لحكومتي، إنها سياسة دولة إسرائيل وشعبها".
في حين كان بلوغ إسرائيل حصتها من الضحايا الفلسطينيين البالغة 50 مقابل 1 أحد أسباب موافقتها على وقف إطلاق النار الأخير (الذي كان يمكن التوصل إليه بعد عدد أقل بكثير من القتلى)، فإن هناك عاملاً حاسماً آخر أفضى إلى هذه النتيجة، والذي يتمثل في أن إسرائيل والولايات المتحدة تواجهان الآن عزلة شبه تامة على مستوى العالم بشأن قضية فلسطين، حيث أصبحت إسرائيل مكروهة في معظم أنحاء العالم. وقد اعترف أكثر من 150 بلداً، يمثلون نحو 87 في المائة من سكان العالم، بدولة فلسطين، حتى في ظل استمرار الولايات المتحدة في استخدام حق النقض (الفيتو) ضد عضوية فلسطين الدائمة في الأمم المتحدة. وقد أوضح القادة العرب والمسلمون للرئيس ترامب أنهم ملتزمون بإقامة دولة فلسطينية. كما أن الرأي العام الأميركي تغيّر بشكل حاسم، إلى جانب المظاهرات العالمية الضخمة الداعمة للقضية الفلسطينية.
وهكذا، شرعت الحكومة الأميركية، المدركة لهذه الديناميات، بتعديل سياساتها، ولو بمقدار ضئيل على الأقل. وبذلك يشكل وقف إطلاق النار فرصة حاسمة للضغط على الولايات المتحدة أكثر، ولتأكيد إرادة المجتمع الدولي. ثمة سلامٌ دائم في المتناول، قائم على تنفيذ حل الدولتين. ويجب على الدول العربية ألا تسمح مجدداً للولايات المتحدة باختراع "عملية سلام" زائفة ولا نهائية أخرى. إن إسرائيل لن تتفاوض أبداً على سلام مع فلسطين.
في 12 أيلول (سبتمبر) 2025، صادقت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" على الوثيقة الختامية لمؤتمرها الدولي رفيع المستوى حول تنفيذ حل الدولتين. ويجب على "الجمعية العامة"، سواء بمشاركة الولايات المتحدة أو من دونها، أن تتخذ الآن إجراءات حاسمة لتنفيذ الاعتراف الكامل بدولة فلسطين، على الرغم من استمرار إسرائيل في وضع العراقيل أمام ذلك.
*جيفري د. ساكس Jeffrey D. Sachs: أستاذ جامعي ومدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، حيث أدار "معهد الأرض" من العام 2002 حتى العام 2016. وهو أيضًا رئيس "شبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة"، ومفوّض في "لجنة الأمم المتحدة العريضة للنطاق الترددي من أجل التنمية".
*سيبيل فارس Sybil Fares: باحثة متخصصة ومستشارة في سياسات الشرق الأوسط والتنمية المستدامة في "شبكة حلول التنمية المستدامة".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel Reaches Its Mass-Murder Quota