الغد
جاء تجديد تفويض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مؤخرا لثلاث سنوات إضافية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ليشكّل لحظة كاشفة في مسار الصراع على الرواية، وعلى الشرعية، وعلى القانون الدولي ذاته. فهذا القرار، الذي حظي بأغلبية ساحقة، يتجاوز بكثير كونه إجراءً إدارياً يخص وكالة إغاثية؛ إذ يحمل في جوهره اعترافاً أممياً متجدداً بأن قضية اللاجئين الفلسطينيين ما تزال قائمة، وبأن الجريمة التي أُسست عليها لم تُغلق فصولها بعد.
الأونروا ليست مجرد مؤسسة تقدم التعليم أو الرعاية الصحية أو المساعدات الاغاثية، رغم حيوية هذا الدور لملايين اللاجئين في غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسورية. إنها في بعدها الأعمق، مؤسسة قانونية وسياسية تحفظ الذاكرة الجماعية لواحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في التاريخ الحديث، تلك التي وقعت بين عامي 1946 و1948، وأسفرت عن اقتلاع شعبٍ من أرضه، وتحويل لجوئه إلى أطول حالة لجوء مستمرة في العالم المعاصر.
لقد قام المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، منذ لحظة تأسيسه، على توظيف أساطير توراتية جرى تحويلها إلى أدوات سياسية لتبرير السيطرة على الأرض، وإزاحة سكانها الأصليين، وإقامة كيان استعماري استيطاني أُنشئ عام 1948 على أسس قانونية ومؤسساتية عنصرية. فالدولة التي أُعلنت على الأراضي المحتلة آنذاك قامت على نظام تمييز عنصري ممنهج، يمنح الحقوق والامتيازات على أساس إثني وديني، ويحرم الفلسطينيين في الداخل والشتات على حد سواء من حقهم في الأرض والمواطنة والعودة.
في هذا السياق، يصبح وجود الأونروا بحد ذاته تحدياً مباشراً للسردية الاستعمارية التي سعت، وما تزال، إلى طمس النكبة وتحويلها إلى حدث عابر في التاريخ. فالأونروا تُبقي الصفة القانونية للاجئ الفلسطيني حيّة، وتربط المعاناة الإنسانية بجذورها السياسية والقانونية، وتفشل محاولات اختزال القضية الفلسطينية إلى “أزمة إنسانية” منفصلة عن أسبابها التاريخية البنيوية.
ويأتي تجديد التفويض في ظل مرحلة هي الأخطر في تاريخ الوكالة، حيث واجهت خلال العامين الماضيين تحديات غير مسبوقة على الصعد السياسية والمالية والعملياتية. فقد تعرضت الأونروا لحملات تشويه منهجية، وضغوط سياسية مباشرة هدفت إلى نزع شرعيتها، وقطع تمويلها، وتقويض ولايتها، بالتوازي مع استهداف منشآتها وطواقمها، لا سيما في قطاع غزة، الذي يشهد إبادة جماعية مكتملة الأركان، وتجويعاً منظماً، وتدميراً شاملاً للبنية المدنية.
وفي الضفة الغربية، يتواصل المشروع ذاته عبر سياسات الاستيطان المكثف، والاستيلاء على الأراضي، وفرض وقائع قسرية تدفع الفلسطينيين نحو التهجير الصامت، باستخدام أدوات الاستعمار الاستيطاني الكلاسيكية: القمع، والتضييق الاقتصادي، وتفكيك الحيز المكاني والاجتماعي.
ورغم ذلك، جاء تصويت الجمعية العامة ليؤكد أن غالبية دول العالم ما تزال ترى في الأونروا التزاماً أممياً لا يمكن التفريط به. لكن خريطة التصويت كشفت في المقابل عن فضيحة أخلاقية وسياسية صارخة، تمثلت في مواقف بعض الدول التي صوّتت ضد التمديد أو امتنعت عنه. وهي دول لطالما قدّمت نفسها باعتبارها حامية للنظام الدولي القائم على القانون والقواعد، لكنها اختارت في هذه اللحظة التاريخية الوقوف في صف الصمت أو التواطؤ.
إن هذا السلوك التصويتي لا يمكن اعتباره موقفاً محايداً أو فنياً، بل هو تعبير فج عن ازدواجية المعايير، وعن استعداد بعض الدول لتعليق القانون الدولي حين يتعلق الأمر بفلسطين. فالامتناع عن دعم الأونروا في زمن الإبادة، وتحت ذريعة “الحياد”، أو “اصلاح الأونروا” هو مشاركة غير مباشرة في سياسات التهجير والقتل الجماعي وإنكار الحق.
إن التحدي الحقيقي اليوم لا يقتصر على تجديد تفويض الأونروا، بل يتمثل في ضمان تمويلها المستدام، وتمكينها سياسياً ولوجستياً من أداء دورها الكامل، بعيداً عن الابتزاز السياسي ومحاولات إخضاعها لإرادة القوى الاستعمارية. فتمويل الأونروا ليس “مساعدة إنسانية”، بل التزام قانوني وأخلاقي نابع من مسؤولية المجتمع الدولي عن الجريمة الأصلية وتداعياتها المستمرة.
في لحظة يُستباح فيها القانون الدولي، وتُطوى فيها المبادئ أمام منطق القوة، تبقى الأونروا واحدة من آخر الشواهد الأممية على النكبة المستمرة، وعلى حق لم يسقط، وعلى ذاكرة ترفض أن تُمحى.