عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Sep-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (9)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

ألحق تحول حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى مظهر «الدولة» أضرارًا متعددة الأبعاد بالقضية الوطنية. 
على الصعيد القانوني: أصبح الكيان الفلسطيني عالقًا في وضع غامض أضعف موقفه في القانون الدولي. عادة ما تعترف المنظومة الدولية بحركات التحرر في العالم باعتبارها نضال شعوب مستعمَرة ضد قوة استعمارية، وبذلك تتمتع بالحماية القانونية والشرعية في أعين الرأي العام العالمي. لكن القيادة الفلسطينية، بتقديم نفسها كدولة ناشئة بدلاً من حركة تحرر، تنازلت عن الكثير من هذه الشرعية الأخلاقية والقانونية.
 
 
كان هذا الوضع منطويًا على تناقض أساسي: ثمة فلسطين التي تعترف بها كـ»دولة» أكثر من 140 دولة، لكنها عملياً بلا سيادة؛ لا تتحكم بحدودها، ولا لها استقلال اقتصادي ولا أمني، ولا حرية في ممارسة حقوق الدولة وفق ميثاق الأمم المتحدة. وقد أتاح التناقض القانوني بين الفرضية والتطبيق للكيان الاستعماري إمكانية التعمية على حقيقة أن الشعب الفلسطيني يعيش فعليًا تحت الاحتلال والاقتلاع ونظام فصل عنصري. ونقل هذا الوضع المشوه النقاش من قضية لإنهاء استعمار واستعادة حقوق إلى مسألة مفاوضات بين «دولتين» أو «كيانين» يُفترض -خطأ- أنهما متكافئان. وأخفى هذا الوضع الاختلال الفادح في موازين القوة، بينما سهّل للكيان الاستعماري تعزيز سيطرته متستّرًا بغطاء «محادثات السلام» أولًا، ثم تجميدها تمامًا بحجة «عدم وجود شريك فلسطيني».
على الصعيد السياسي: جلب تحوّل الحركة الوطنية عن أهدافها المركزية تداعيات كارثية على وحدة الفلسطينيين ووضوح أهدافهم. فقد حوّل حركة تحرريّة وحّدت الفلسطينيين حول مطالب العودة، والحرية، والتحرر الكامل من الاستعمار وتفكيكه، إلى «سلطة» تطارد مكاسب جزئية، وتعمل ضمن البنية الاستعمارية وتحت يدها، وبشروطها. وحلّت لغة «حل الدولتين» و»مفاوضات الوضع النهائي» محل خطاب الكفاح الوطني المناهض لمشروع الاستعمار ككل.
أدى هذا التحوّل المركزي إلى تشويش الوعي السياسي الفلسطيني وتمزيق الإجماع الوطني. ورأى معظم الفلسطينيين -الذين يختبرون حالة عدم وضوح ممزِّقة في الشتات ومخيمات اللاجئين- في سعي «السلطة» إلى إقامة دولة تحت الاحتلال خيانة لحقهم في العودة إلى ديارهم في كامل فلسطين، وتهميشاً لدورهم التاريخي في مشروع التحرير. ولا يرى هؤلاء الفلسطينيون، بحكم موقعهم كأصحاب فلسطين التاريخية، أن قضية فلسطين هي بناء «دويلة» في الضفة وغزة، وإنما تتعلق بتفكيك البنى الاستيطانية الاستعمارية التي اغتصبت وطنهم منذ 1948. وبذلك، شوّه وهم الدولة هوية الحركة الوطنية نفسها، وحوّلها من نضال جامع لكل الفلسطينيين إلى مشروع إداري يقتصر على شريحة من الفلسطينيين محكومة بالجغرافيا.
كما طال الضرر أيضًا وسائل النضال نفسها: تاريخيًا، أثبتت تجارب حركات التحرر الوطني أن إنهاء الاستعمار يتطلب حشد كل أشكال المقاومة -المسلحة والمدنية، والسياسية والثقافية. لكن التمسك بمظهر «الدولة» حيث لا دولة حصر أدوات «السلطة الفلسطينية» في الدبلوماسية والتنسيق الأمني. وأسّس إطار «أوسلو» لتعاون أمني مؤسسي مع سلطة الاستعمار، محوّلاً «السلطة» عمليًا إلى مقاول فرعي للاحتلال بدلاً من أن تكون متحدّياً له. وكان بقاء «السلطة» مرهوناً، موضوعيًا، بأموال المانحين وبـ»الاعتراف الدولي»، المشروطين بدورهما بأداء «السلطة» وظيفتها: الحفاظ على ما يدعى «الاستقرار» وقمع المقاومة. وبذلك، تحولت «السلطة» من أداة للتحرر إلى آلية لجعل المجتمع الفلسطيني «منضبطًا»، حتى لا ينهار وهم الدولة. وقد أفقد هذا الدور الواضح «السلطة» مصداقيتها لدى شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني، وخاصة الشباب والشتات واللاجئين، الذين يرون فيها رمزاً للتواطؤ وليس الاستقلال.
على المستوى العربي: صنع ظهور «السلطة» بمظهر الدولة انطباعًا مضللًا بأن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة التسوية النهائية، وأن الاحتلال في طريقه إلى الانتهاء. وأتاح هذا المظهر المناقض للجوهر للدول العربية تبرير تطبيع الكيان الاستعماري، بذريعة أن الفلسطينيين أنفسهم اعترفوا بالكيان وشرعنوه، ولديهم «كيان سياسي» يدير شؤونهم. وبذلك، ساعدت صورة «الدولة» التي جسدتها «السلطة» في تهيئة البيئة السياسية والإعلامية التي سهّلت على بعض العرب الانتقال من موقع الدعم للمقاومة والتحرر إلى موقع الاعتراف بالكيان -والتعاون معه.
وعلى المستوى الدولي: ساعد تقمص مظهر «الدولة الفلسطينية» المشروع الاستعماري بتضليل الرأي العام العالمي. وأصبح الكثير من المراقبين الخارجيين، خاصة في الغرب، يرون في الاعتراف بفلسطين كدولة، وفي المؤسسات القائمة في رام الله، علامة على اقتراب الحل -أو على أن الفلسطينيين يتمتعون فعليًا بشيء من السيادة.
وقد خفف هذا التصور من إلحاح التضامن بعد أن لم تعد فلسطين قضية شعب مستعمَر من حقه إنهاء الاستعمار، وإنما «شبه دولة» تتفاوض مع جارتها. وطوال عقود من وهم «الدولة»، حوّل هذا التأطير الأنظار عن ممارسات الكيان المستمرة من نهب الأرض، والتطهير العرقي والفصل العنصري، ووضع على كاهل الفلسطينيين عبء إثبات «جاهزيتهم» لبناء الدولة. وكان أحد الشروط هو «الوحدة» التي جُعلت شبه مستحيلة موضوعيًا في هذا الوضع الاستقطابي. وهكذا اختفت مسؤولية المستعمِر عن تفكيك هيمنته لصالح خطابات محلية، وعربية، ودولية لا تنتهي حول «معوقات» حل الدولتين التي اختُزلت في الانقسام الفلسطيني، أو «قصور» في النضج السياسي، -أو حتى استخدام الفلسطينيين السلاح لمحاولة الدفاع عن بقائهم.
كان الأثر التراكمي لهذه التحولات إضعافًا عميقًا للنضال الفلسطيني من أجل التحرير. وأصبح ما كان حركة شرعية مناهضة للاستعمار، تستقطب تضامناً عالمياً وتطالب بالعدالة وفق المعايير الكونية، كيانًا متورطاً في لغة الدبلوماسية وبناء المؤسسات والمفاوضات. وجرّد هذا الموقف الفلسطينيين من أقوى أسس نضالهم: وضوح حالتهم كأمة مستعمَرة تكافح من أجل إنهاء الاستعمار. وبفقدان هذا الوضوح، منحت قيادة الفلسطينيين المشروع الاستعماري فرصة نادرة للاستمرار والديمومة.
الآن، أصبح مشروع التحرر الشامل من الاستعمار، الحق الذي ينبغي أن يكون غير القابل للتفاوض للمستلبين، يُصوَّر على أنه غير واقعي. وأصبح وهم «الدولة» -برغم استحالته بالنظر إلى طبيعة الاستعمار وأهدافه ونوع القوى التي تقف خلفه- يُعرض بوصفه الطريق الوحيد «الواقعي». هكذا أعيدت صياغة القضية الفلسطينية لتتحول من صراع من أجل تفكيك الاستعمار إلى مسعى بائس للتعايش معه من موقف الاستلاب -وبذلك إضفاء الشرعية على الهياكل نفسها التي تواصل تجريد الفلسطيني من هويته وإخراجه من التاريخ.