الدستور
خلال الأسابيع الماضية تكبّدت الولايات المتحدة أثمانًا فادحة نتيجة تحالفها غير المشروط مع الكيان الصهيوني. فقد أقدم هذا الكيان على استهداف الشقيقة قطر، ضاربًا في الصميم مصالح واشنطن في المنطقة، ومثيرًا تساؤلًا جوهريًا: ما جدوى كل تلك القواعد العسكرية وترسانات السلاح الأميركي المنتشرة هنا؟ تلا ذلك سلسلة من الاعترافات الواضحة من أبرز الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة بالدولة الفلسطينية، أعقبتها اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المخصّصة لمأساة غزة، وصولًا إلى خطاب مجرم الحرب نتن ياهو من على منبر المنظمة الدولية أمام قاعة شبه خالية. وهكذا وجدت الولايات المتحدة نفسها في عزلة، تحيط بها الشكوك في قدرتها على الاستمرار زعيمةً للعالم.
لقد أضرّ انحياز واشنطن السافر إلى صفّ الصهاينة بصورتها كقوة مهيمنة، حتى غدت تشعر بأنها لم تعد تمسك بخيوط اللعبة كما اعتادت. ولتذكير العالم بأنها ما تزال تتصدّر المشهد، ولتمتصّ موجة الغضب التي عمّت قاعات الأمم المتحدة، سارعت إلى عقد اجتماع جمع الرئيس ترامب بعدد من الزعماء العرب والمسلمين، حيث استمع إلى غضبهم وإحباطهم ومطالبهم العاجلة: وقف المجزرة، منع تهجير السكان، والتصدي لمحاولات ضمّ الضفة الغربية. ويبدو أنّ الولايات المتحدة بدأت تدرك أنّ مصالحها في المنطقة باتت مهددة.
في هذا السياق، جاءت خطة ترامب الجديدة لوقف الإبادة الجماعية في غزة، معلنًا لأول مرة أنّ الولايات المتحدة لن تسمح للكيان الصهيوني بضمّ الضفة الغربية. وتشير التسريبات الأوّلية للخطة إلى بنود محورية: إطلاق الأسرى، وقف دائم لإطلاق النار، انسحاب تدريجي للقوات الصهيونية من كامل القطاع، وإنشاء مجلس دولي وعربي يضم ممثلًا عن السلطة الفلسطينية وحكومة تكنوقراط، إلى جانب قوة أمنية مشتركة من فلسطينيين وجنود من دول إسلامية. كما تتضمن الخطة مسارًا موثوقًا نحو إقامة دولة فلسطينية، شرط إجراء إصلاحات جوهرية داخل السلطة الفلسطينية.
ويبدو أنّ ترامب ونتن ياهو قد تبادلا إشارات مبطَّنة قبل اجتماعهما يوم امس. فقد جاء تصريح ترامب المفاجئ برفض ضمّ الضفة الغربية انعكاسًا لمخاوف واشنطن من فقدان قبضتها على الشرق الأوسط، وبدت كلماته وكأنه يهيّئ نتنياهو ليكون كبش الفداء حين قال: يبدو أننا بصدد التوصل إلى صفقة بشأن غزة، صفقة ستنهي الحرب، وسيكون هناك سلام. أما نتن ياهو، فقد واجه تلك الضغوط بخطاب عدائي على منبر الأمم المتحدة، أكّد فيه استمرار الإبادة في غزة. ورغم أنه لم يأتِ على ذكر خطة ترامب صراحة، إلا أنه أوحى بعدم استعداده لتقديم أي تنازلات. وقبيل اجتماعه بترامب، حرص على زيارة بعض الجماعات اليمينية الأميركية المتطرفة المعادية للفلسطينيين، وعلى رأسها منظمة «بيتار أميركا».
لكن تبقى الأسئلة المعلّقة كفيلة بنسف هذه الخطة: ماذا لو رفضت حركة حماس الخطة، خصوصًا أنّه لم يُعرض عليها أيّ من تفاصيلها حتى كتابة هذه السطور؟ وما هي الدول التي ستوافق على المشاركة في القوة الدولية المزمَع أن يقودها ضابط أميركي ورئيس للمرحلة الانتقالية، وسط تسريبات تتحدث عن تَولّي توني بلير ـ الملطخة يداه بدماء العراقيين ـ لهذا الدور؟ وهل ستشارك الدول العربية في الخطة إذا رفضت حماس؟ وماذا لو تمسكت الحركة برفض تسليم سلاحها أو نفي قادتها؟ وما هو موقع السلطة الفلسطينية في هذه الترتيبات؟ وهل ستنخرط الدول العربية والإسلامية في ظلّ رفض الكيان الصهيوني لحل الدولتين؟ وأخيرًا، ما هو الجدول الزمني الحقيقي لانسحاب قوات الاحتلال من غزة؟
أمام هذه التعقيدات، بدأت الولايات المتحدة تدخل تعديلات على خطة الرئيس، فعقدت الإدارة الأميركية ـ وعلى رأسها كبار المسؤولين ـ اجتماعات مطوّلة مع نتن ياهو في محاولة للتوصل إلى صيغة تُرضيه، وللضغط عليه في الوقت ذاته من أجل الموافقة على وقف المجزرة. ووفقًا للتقارير، فقد اشترط نتن ياهو نزع سلاح حركة حماس قبل الموافقة على وقف إطلاق النار، كما أعلن معارضته لأن تكون إدارة غزة الانتقالية تحت إشراف مجلس الأمن او وجود أي دور للسلطة الفلسطينية.
قد يسعى نتن ياهو إلى إظهار التعاون مع الخطة، بينما يعمل في الخفاء على تعطيلها، في محاولة لتجنّب غضب ترامب والحفاظ على تماسك ائتلافه الحكومي. وحتى لو وفّرت المعارضة شبكة أمان في حال انهيار حكومته، فإن ذلك لن يمنع تحوّله إلى رئيس ضعيف، لعبةً في يد خصومه السياسيين. لكن هذه المرة، تبدو الصورة مختلفة؛ فمصالح الكيان بدأت تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة نفسها في المنطقة.