الدستور
تنعقد اليوم في شرم الشيخ «الاحتفالية الدولية» التي دعت إليها مصر والولايات المتحدة، بمشاركة عدد كبير من القادة والزعماء الغربيين والعرب، تحت عنوان «بناء نظام جديد للسلام في المنطقة»، في مشهد يبدو أقرب إلى تتويج سياسي للإدارة الأميركية بعد عامين من حرب غزة، منه إلى بداية حقيقية لمسار سلام واقعي أو مستدام.
المؤتمر يعقد – كما هو مقرر- بغياب للفلسطينيين والإسرائيليين، إلاّ إذا حدثت مفاجآت، لكنّ المعضلة الأعمق تكمن في غياب الرؤية، لا في غياب الأطراف. فالإدارة الأميركية تمضي في ترتيب مشهد سياسي لما بعد الحرب، دون أن تمتلك تصورًا واضحًا لطبيعة السلام الذي تسعى إليه، أو الأطراف التي يُفترض أن تشكّل بنيانه، ودون أن تجيب عن السؤال المركزي: سلام مع من؟ ولأي هدف؟
الحديث الأميركي المتكرر عن «مرحلة انتقالية» في غزة، يتولى إدارتها ائتلاف عربي ـ دولي بإشراف أميركي، لا يمثل عمليًا تمهيداً للطريق أمام عودة السلطة الفلسطينية، كما يُروَّج، بل إدارة مرحلة بلا أفق سياسي محدد، تتيح لإسرائيل فرض وقائع جديدة على الأرض، وتكريس واقع الفصل بين غزة والضفة الغربية، في ظل رفض واضح من حكومة نتنياهو لأي دور فلسطيني فعلي.
ما يجري اليوم هو إعادة إنتاج لمشهد «السلام الأميركي» الذي طالما حاولت واشنطن تسويقه منذ الاتفاقيات الإبراهيمية، لذلك رأينا عودة كوشنير وتوني بلير ومحاولة فرض منظور للسلام بلا دولة فلسطينية: نظام يقوم على الترتيبات الأمنية والتسهيلات الاقتصادية، ويتجاهل جوهر الصراع المتمثل في الاحتلال والاستيطان وغياب العدالة. والنتيجة، كما علّمنا التاريخ، هي مزيد من التوتر والانفجار، لا الاستقرار.
الاحتفالية السياسية في شرم الشيخ، مهما بدا بريقها الدبلوماسي، لا تخفي حقيقة الفراغ الاستراتيجي في الرؤية الأميركية. فالولايات المتحدة تسعى لتسجيل إنجاز رمزي يتمثل في «إنهاء الحرب»، لكنها تتجنب الإجابة عن الأسئلة الصعبة المرتبطة بما بعد الحرب: من سيحكم غزة؟ ما مستقبل الضفة؟ كيف يمكن تحقيق توازن جديد في الإقليم بينما تُستبعد القوى الفلسطينية من المعادلة؟
الأخطر أن واشنطن، عبر تبنيها سردية «السلام من الخارج»، تمنح إسرائيل شرعية جديدة لسياساتها على الأرض، وتغسل ما قام به نتنياهو من إبادة وتدمير لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية، فيما تختزل الدول العربية تموضعها الاستراتيجي في دور الوسيط لا الطرف المقابل للحكومة الإسرائيلية، في لحظة يعاد فيها رسم ملامح النظام الإقليمي من دونهم.
الاحتفالية التي تجري اليوم في شرم الشيخ مرتبطة بعالم الخيال الواسع لدى ترامب المسكون بأوهام العظمة والنرجسية، والسلام الذي يتحدث عنه لا أساس له على أرض الواقع، فليس هنالك طرف إسرائيل يريد السلام ولم يجرؤ ترامب نفسه على وضع فقرة مرتبطة برفضه ضم الضفة الغربية (كما أعلن هو نفسه) في خطة غزة، بالرغم من أنّه كان قد وعد الأردن والقادة العرب بذلك، ونتنياهو يكرر بصورة واضحة وحاسمة أنّه لن يقبل بدولة فلسطينية، ولن يقبل بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة؛ وإذا كانت هنالك خطابات في شرم الشيخ اليوم سنجد أنّ المتحدثين الآخرين سواء كانوا عرباً أو أوروبيين سيركزون على إقامة الدولة الفلسطينية كشرط رئيس لأي مشروع سلام إقليمي، بينما سيتجنب ترامب ذلك كليةً وسيتحدث عن أفق جديد في مرحلة الشرق الأوسط وعن نظام سلام جديد يضم إسرائيل والدول العربية، ومرحلة قادمة مزدهرة وهي جميعاً لا تتجاوز مخيلته وأوهامه!