عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    26-Jul-2025

جنود يقتلون المسعفين والجوعى ليسوا ضحايا، وبالتأكيد ليسوا أبطالا

  الغد

جدعون ليفي* - (هآرتس بالعربي) 21/7/2025
 
في الزلزال القادم -في أي بلد آخر- يجب أن تُطرَد وحدات الإنقاذ الإسرائيلية التي تجرؤ على الظهور بوجوهها في استعراض مصطنع للخير والإنسانية. يجب أن تُطرَد مكللة بالعار. لقد فقد هذا الجيش أهليته الأخلاقية.
 
 
عينٌ مغمضة والأخرى مفتوحة. يد ممدودة في محاولة لصد الجدار المنهار. جسدٌ محاصر، ورأس عالق تحت الركام منذ ساعات الليل. مصباح كهربائي ملقى بجانبها. تمد يدها نحوه في محاولة يائسة للإمساك به، عله يخلصها، لكنه يسقط من يدها. ترفع كفها إلى الأعلى، وكأنها تلوح للحياة، كأنها تقول: "أنا ما زلت هنا". تحاول أن تنطق، تصارع الكلمات بصوت متهدج: "أنقذوني، أنا متعبة، لا أستطيع". ثم، وبآخر ما تبقى لها من نفس تهمس: "أرجوكم، أرجوكم، أنقذوني". هذه كانت كلماتها الأخيرة. إلى جوارها يقف زوج أختها، أنس، يحاول أن يشجعها على التحدث: "تكلمي يا هالة، تكلمي". ولكن لا جواب. عيناها تنغلقان. لا أحد يعرف كم من الوقت بقيت على قيد الحياة بعد هذا المشهد المؤلم.
في وقت متأخر من صباح أمس، كتب الصحفي نير حسون على شبكة (إكس): "اسم هذه السيدة هو هالة عرفات، وتبلغ من العمر 35 عامًا. منذ الساعة الثانية فجرًا، ظلت هي و14 فردًا من عائلتها -معظمهم من الأطفال- عالقين تحت أنقاض منزلهم في شارع الزرقاء بحي التفاح. تحدثتُ مع زوج أختها، وأخبرني بأن كل من يحاول الاقتراب لمساعدتهم يتعرض للهجوم من الطائرات المسيرة. إذا كان لدى أحد فكرة لإنقاذهم، فإن هذا هو الوقت".
الناطق باسم الجيش الإسرائيلي لم يكلف نفسه عناء الرد على نير حسون طيلة 12 ساعة. لمَ العجلة؟ وفي وقت لاحق خرج المتحدث بتبرير باهت تحدث فيه عن "غياب الإحداثيات". هالة اختبرت مع زوجها وأطفالها الأربعة موتًا بطيئًا لا يُحتمل. أربعة عشر فردًا من العائلة، بينهم سبعة أطفال، قُتلوا في القصف على منزلهم.
لكن عائلة عرفات لم تكن الوحيدة التي أبيدت أول من أمس ليلًا. ثمة عائلة عزام أُبيدت هي الأخرى: أمير، راتب، كريم، وأربعة أطفال رُضّع. وسوف تظل صور الأطفال الأربعة مسجّين على ظهورهم، ملفوفين بالأكفان البيضاء ووجوههم مكشوفة، من أبشع المشاهد التي يمكن أن تراها عين. وجه أحدهم كان مهشمًا بالكامل. وقد تحولت بعض الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي إلى دفاتر يومية توثق مشاهد من المجازر البشرية. وعلى كل إسرائيلي اليوم أن يحدق في هذه الصور من دون أن يشيح ببصره. فلتتأذَّ المشاعر، ولتُصدَم النفوس الحساسة والرقيقة -لا يجوز إخفاء أي صورة من الصور التي تُلتقط في غزة. إنها ليست صورًا صادمة بغرض الإثارة؛ إنها الحقيقة نفسها. الحقيقة العارية، التي يجب أن تُشاهد.
كلمات هالة الأخيرة، والعجز عن إنقاذها، لا يفارقان الذاكرة. كان ينبغي أن توقظ فينا صور امرأة عالقة تحت أنقاض منزلها رغبة عارمة في العمل على انتشالها وإنقاذ حياتها. لكن هذا المشهد لم يثر في الجيش الإسرائيلي سوى قرارًا بإطلاق طائرات مسيرة للقتل، تستهدف كل من يحاول التقدم لمساعدتها، كما حدث أمس في شارع الزرقاء بمدينة غزة. 
بحسب التقارير، كل من اقترب من المكان أطلق عليه الجيش الإسرائيلي النار. جلست المجندات "الشجاعات" خلف عصي التحكم -أو ربما كانوا جنودًا- ولعبوا لعبة الموت ضد كل من حاول أن يذهب للإنقاذ. هؤلاء هم جنود الجيش الإسرائيلي الذين ما تزال الدولة تحتضنهم كما لو كانوا ضحايا هذه الحرب وأبطالها.
لكنهم ليسوا ضحايا، ولا أبطال، عندما يطلقون النار من طائرات مسيرة على الناس العزل. وهكذا يطلقون النار أيضًا على نقاط توزيع المساعدات. أمس فقط، سُحق عشرون إنسانًا حتى الموت هناك. هذا هو الجيش نفسه الذي اعتاد إرسال بعثات إنقاذ إلى أنحاء العالم لإنقاذ مدنيين أجانب -في اليابان، وتايلاند، والبرازيل، وتركيا. أما اليوم، فلم يَعُد يُنقذ أحدًا. اليوم، هو من يطلق النار على من يحاول إنقاذ امرأة محاصرة بين جدران بيتها المنهار.
هل ثمة وحشية أفظع من ذلك؟ تنضب الكلمات من جديد. في الزلزال القادم -في أي بلد آخر- يجب أن تُطرَد وحدات الإنقاذ الإسرائيلية التي تجرؤ على الظهور بوجوهها في استعراض مصطنع للخير والإنسانية. يجب أن تُطرَد مكللة بالعار. لقد فقد هذا الجيش أهليته الأخلاقية. الجيش الذي يطلق النار على المُسعفين وعمال الإغاثة والجوعى يفقد الحق الأخلاقي في تقديم المساعدة. كلا، شكرًا -سيقول لهم العالم- لن نقبل مساعدتكم بعد اليوم وقد أصبحت أيديكم مغموسة في دماء الأبرياء.
 
*جدعون ليفي: صحفي وكاتب ومعلق سياسي إسرائيلي بارز، يعمل في صحيفة "هآرتس" منذ الثمانينيات، ويُعرف بمواقفه الجريئة والناقدة بشدة للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. عمل في شبابه مساعدًا لرئيس الوزراء الأسبق شمعون بيريز. لكنه اتخذ لاحقًا مسارًا نقديًا جذريًا، وأصبح من أبرز الأصوات الإسرائيلية المناصرة للعدالة للفلسطينيين، مثيرًا جدلًا واسعًا داخل إسرائيل وخارجها. يكتب عن الاحتلال، والحصار، والانتهاكات بحق الفلسطينيين، ويعد من الأصوات النادرة في الإعلام الإسرائيلي التي تكسر الإجماع القومي وتسلط الضوء على الجانب الإنساني للصراع.