الدستور
هناك شعوب تعيش حاضرها وتنحت حاضرها بأدوات المستقبل، وشعوب تظل أسيرة لما تعتقد أنه مجدها القديم. في إيران، الدولة لا تُدار بل تُستحضر من قبر مملكة لم تعد موجودة، وترتدي عباءة ثورة لم تعد ثورة. نظام لا يعيش الزمن واشتراطاته، بل يقاومه. يخاصم الواقع باسم المبدأ، والجغرافيا باسم القداسة، ويخوض معاركه وكأنه يكتب ملحمة بطولية لا تقبل المراجعة أو التعديل.
منذ اللحظة التي اختطف فيها رجال الدين هذا البلد، لم يكن الهدف بناء وطن، بل إعادة إنتاج سردية الفوقية التاريخية. لم تكن المعركة من أجل التنمية، بل من أجل تصدير الوهم. لقد فُهمت الهوية القومية لا بوصفها أرضا وشعبا ومستقبلا، بل سيفا مشهرا في وجه كل من لا يُشبهها. ولذلك، حين طُرحت أول فرصة للانفتاح، قابلها النظام بالتشكيك.
المشكلة ليست في سياسة خاطئة، بل في عقل يرفض فكرة أن الخطأ ممكن. في نظام يرى التراجع والمناورة ضعفا، لا شجاعة. يتعامل مع السياسة كأنها دين، ومع المصالح كأنها عقائد. حتى عندما منح ترامب طهران مهلة محددة، لم يكن هناك سوى مماطلة محسوبة، ومفاوضات خالية من النية. وفي اللحظة التي انتهى فيها الوقت، لم ترتبك طهران لأنها لا تعترف بالزمن أصلا.
في العمق، لا مرونة ولا واقعية. الداخل يئن. الجوار يتململ. العالم يتحفز. والنظام، ما زال يصرخ في الفراغ، وكأن الصدى يكفيه ليقنع نفسه أنه ما زال قويا. لم يتعلم بعد أن السيادة لا تُفرض بالتهديد، وأن العقيدة وحدها لا تحكم بلدا إلى الأبد.
لكن لا يمكن لدولة أن تواجه العالم وهي ترفض مواجهة ذاتها. لا يمكن لعقل أن ينتصر وهو لا يعرف إلا العناد. فالعزلة ليست قدرا، بل نتيجة. والوقوع ليس مؤامرة، بل نهاية منطقية لمسار طويل من الإنكار.
لن تسقط إيران بسبب قوة خصومها، بل بسبب عمى نظامها عن رؤية تحولات عصره. والهوية التي لا تتجدد، تموت. والتاريخ الذي لا يتعلم، يكرر مأساته بصوت أعلى في كل مرة.