الغد
مسألة جدلية بالتأكيد، تعتمد على المنظور وموضع التركيز. وموضع التركيز إما اختياري، حيث يجتزئ المرء المقطع الذي يخدم أطروحته؛ أو موجّه، حين يرسل قرع الطبول وضرب الخشب بالخشب الانتباه قسرًا إلى جزء مقصود من الصورة. هذا هو الحال مع الأحداث المتطورة في المنطقة منذ نهاية الأسبوع الماضي وعلاقاتها وصلاتها.
آخرون في المنطقة يرون الضربات التي تتلقاها إيران الآن مستحقّة وتستوجب الاحتفال، بغض النظر عن الجهة التي تُوجهها. والمنطلق هو أن تصفية قوة إيران ستجلب “الاستقرار” للإقليم. ويعني “الاستقرار”، حسب ما يبدو من خطاب هؤلاء، التخلص من أي حركات أو كيانات تجلب المشاكل بتعطيل أو تأجيل هيمنة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني المطلقة على المنطقة، عن طريق تطبيق خريطتهما، على أساس تطبيع هذه الهيمنة رسميًا والمصادقة عليها باتفاقات مكتوبة.
سوف يسارع هؤلاء إلى إبراز صور الدمار في إيران، ويسخرون من ضعف ردّ الفعل، وسوء الاستعداد، والاختراق الأمني، وتهديد طهران بالرد. وعندما يردّ الإيرانيون ويُحدثون أضرارًا بمقدرات الكيان، سيخففون من تسرّعهم بتصوير الصواريخ على أنها ألعاب نارية، ويجزمون بأنها لا تنفع والنتيجة محسومة. والفكرة التي يريدون إثباتها هو أنها لا حكمة ولا مصلحة ولا أمل في الاجتراء على معارضة مخططات الولايات المتحدة والمستعمرة الاستيطانية الصهيونية لاستعباد الإقليم، وأن الذي يجرؤ سيُضرب ضربَ غرائب الإبل. ولن تخفى مشاعر الشماتة في هذا الخطاب –وربما الأسف على أي خسائر محسوسة لأميركا والكيان، حتى تصمد السردية.
وثمة الذين يرون الحدث من منظور تقدير حجم الخطر الذي تشكله الولايات المتحدة والكيان الصهيوني على العرب، الذي لا يمكن أن يقترب منه مجرد اقتراب خطر أي أحد آخر، لا إيران محدودة الإمكانيات، ولا حتى الدول القارّات مثل روسيا والصين. ومن هذا المنظور، لا بأس في أن يكون هناكَ أحد في الإقليم يعارض ويعطل بأي إحكام طريقة هيمنة أميركا والكيان على إقليم العرب إذا كان العرب الرسميون لا يعارضون. وبذلك تكون الفكرة، غير العاطفية، هي أن كل من تستهدفه أميركا والكيان بالتصفية، لا بد أن يكون على الجانب الصحيح من معادلة الخير والشر في هذه الجزئية على الأقل، وأن يكون مفيدًا لقضية العرب -حتى كمنافس- بالقدر الذي يعطّل فيه إنجاز مشروع الهيمنة الأميركي الصهيوني على العرب باعتبارهم أصحاب الإقليم والقوة الساحقة –نظريًا وبالإمكان- فيه.
الغريب، غير المنطقي، بل الانتحاري صراحة في المشهد ككل، هو أن الكيان الصهيوني وما يمثله يرى المعركة ويخوضها باعتبار أنها صراع وجودي. ومن جهتها، ترى إيران من جهتها الصراع، وتخوضه، باعتبار أنه وجودي أيضًا. لكن العرب الذين يقرِّرون، يصرون على تصوير ما يجري بأنه ليس صراعًا وجوديًا بالنسبة لهم هم أيضًا ولذلك لا يجب عليهم خوضه –ولا يخوضونه. وبذلك يكون الموقف هو المراقبة من الهوامش وانتظار، وربما استعجال –أو حتى مساعدة- انجلاء غبار المعركة عن منتصر نهائي مرغوب كما يبدو، ويا للعجب! باعتباره “الحليف”، “الشريك”، “الضامن”، “الصديق” الذي لا ينام الليل حرصًا على رفاه العرب: الولايات المتحدة –ومعها طبعًا كيان نتنياهو كزعيم وحيد أوحد للإقليم –إقليم العرب.
المفارقة أنه يتم التسويق لهذه الحصيلة على أنها خيار وجودي –لا يستوجب الدخول في صراع وجودي- لمستقبل العرب “المستقر والمزدهر”! والمنطق هو “سلِّم تسلم”. والإعلان الدعائي لتسويق هذا المنتج هو مشاهد الدمار والقتل في غزة، ولبنان، واليمن، وسورية، وليبيا، والعراق –وأي مشاجرات قبائلية وعائلية، وأي توترات أو اضطرابات تنشأ بين القابلين بالسلامة بالإياب والذين يرون السلامة في شيء آخر. وكمثال فقط، نشر فلاسفة “السياسة الواقعية” ودعائيوها صور الحرائق في صنعاء، صنعاء العربية -لا مع تعليق يدين وحشية الكيان الصهيوني المستعمِر، أو التأسي على استهداف مكان في العمق الإستراتيجي العربي وتدمير مقدرات عربية وقتل مواطنين عربًا، وإنما مع شيء من قبيل: أنظروا يا ديماغوجيون. هكذا يحدث للذي لا يسمع كلام البابا والماما!
ثمة دائمًا حرف الأنظار عن الفعل العدواني الذي يمارسه عدو بائن يكره كراهية الموت كل عربي ويتمنى موته، نحو لوم المعتدى عليه. وهو موقف في السياق الأخير أكثر كهنوتًا من الكهنة بعد أن دانت الحكومات هذا العدوان البائن والمخالف للقوانين الدولية. كان ينبغي استثمار كل وأي موقف لإدانة الكيان الصهيوني والغطرسة الأميركية، بمناسبة وبلا مناسبة وأيًا كان خصمهما، كحد أدنى من الوفاء لحقيقة أن هذين لا يفعلان أي شيء إلا لمزيد من إذلال العرب. وكان يمكن صرف الطاقة في إثارة قضية موقف العرب النووي في خضم صراع إقليمي نووي، كمسألة وجودية حقيقية. وللحديث صلة.