منح الجسيم ومسؤولية الجامعات الخاصة.. هل حان وقت المشاركة في رد الجميل؟*حسن الدعجة
الغد
تواجه بعض الجامعات الحكومية في الأردن تحديات مالية متراكمة، حيث تشير الأرقام إلى وصول مديونيتها إلى ما يقارب 242 مليون دينار. وهذه المديونية ليست نتيجة عامل واحد فقط، بل هي حصيلة مجموعة من الالتزامات والتوسع في الخدمات والبرامج، إلى جانب الضغوط التشغيلية المتزايدة وتراجع مصادر التمويل التقليدية. فالجوانب المالية التي تعاني منها هذه الجامعات تُعد نتيجة طبيعية لدورها الوطني الواسع، ولتحملها وظائف تتجاوز نطاق العملية التعليمية.
وفي سياق موازٍ، تقوم الجامعات الحكومية، ومنذ سنوات طويلة، بواجب وطني نبيل يتمثل في تقديم منح الجسيم لأبناء الشهداء والمصابين من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، تقديرًا لتضحياتهم ودورهم في الحفاظ على أمن الوطن واستقراره. تتحمل الجامعات الحكومية كامل تكلفة هذه المنح دون مشاركة مؤسسية مستدامة من الجامعات الخاصة، رغم أن القطاع التعليمي الخاص يستفيد من البيئة الآمنة والمستقرة التي ساهم هؤلاء الأبطال في صنعها. إن هذا الدور الاجتماعي يعكس وفاءً حقيقياً للوطن، لكنه في الوقت ذاته يفرض أعباءً مالية إضافية تستدعي التفكير في آليات دعم عادلة وشراكات مسؤولة.
إن منح الجسيم ليست مجرد إعفاء مالي عن رسوم جامعية؛ هي تعبير عملي عن الوفاء والاعتراف بالجميل، ورسالة تقول إن الوطن لا ينسى أبناءه أو من ضحوا لأجله. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل من العدل أن تستمر الجامعات الحكومية وحدها في تحمل هذا العبء الوطني؟ وهل من المنطقي أن تُرهن قدرتها على التطوير الأكاديمي والبنية التحتية ومستوى الخدمات بسبب التزامات مالية لم تشاركها فيها مؤسسات أخرى تستفيد من البيئة الوطنية ذاتها؟
في المقابل، تنمو الجامعات الخاصة وتحقق أرباحًا، وتبني مكانتها وسمعتها في سوق التعليم العالي المحلي والإقليمي، مستندة إلى الاستقرار الذي قدمه حماة الوطن. ومع أن بعض الجامعات الخاصة تبادر في أحيان قليلة إلى تقديم منح أو دعم، فإن هذه المبادرات تبقى فردية وغير مؤسسية، ولا تعكس تصورًا وطنيًا أو مسؤولية مشتركة تجاه هذه الفئة التي تستحق الكثير.
القضية هنا ليست في أن تتحمل المؤسسات الخاصة عبئًا ماليًا، بل في ترسيخ مبدأ العدالة في توزيع المسؤولية قبل توزيع المكاسب. فكما أن القطاع الخاص يستفيد من منظومة التعليم، ومن رأس المال البشري، ومن الكفاءات التي تخرجها الجامعات الحكومية، فإنه من الطبيعي أن يتحمل جزءًا من المسؤولية الاجتماعية الوطنية، ولو بشكل يسير، مشاركةً مع الجامعات الحكومية التي تقف في الخط الأول لخدمة المجتمع.
يمكن النظر إلى ما تقدمه الجامعات الحكومية في هذا المجال بوصفه جزءًا من واجبها الوطني تجاه المجتمع، والتزامًا يعكس تقديرها لدور من قدّموا للوطن الكثير. فهذه الجهود لا تُدرج كأرقام في الموازنات المالية، بقدر ما تعكس منظومة قيم راسخة تؤمن بها الجامعات، تقوم على العطاء والمسؤولية الاجتماعية. ومع تطور دور الجامعات واتساع مهامها التعليمية والبحثية، بات من الطبيعي أن تتأثر أولوياتها ومواردها بتعدد الأدوار التي تنهض بها، لا سيما حين تسعى في الوقت ذاته إلى تطوير بيئتها الأكاديمية وتعزيز قدراتها في مجالات البحث والتجهيزات والبنية التحتية، واستقطاب الكفاءات.
وهذا الدور يُحترم ويُقدّر، خصوصًا أنه يُمارس بهدوء وبحس وطني عالٍ، إلا أن مواصلة هذا النهج تتطلب رؤية تشاركية بين مختلف مؤسسات التعليم العالي، بما يضمن استدامته ويمنح الجامعات مساحة أوسع للتركيز على رسالتها التعليمية والبحثية. فحين تتكامل الجهود في خدمة هذا الهدف، يصبح الاستثمار في التعليم استثمارًا في مستقبل الوطن كله، وينعكس أثره على المجتمع بمختلف فئاته، دون استثناء.
التطلع لا يتجه نحو فرض التزام أو إصدار تشريع إلزامي، بل نحو شراكة واعية ومسؤولة تتقاسم من خلالها الجامعات الخاصة جزءًا من هذا الواجب الوطني. ويمكن للجامعات الخاصة أن تتخذ عدة صور في مشاركتها، كأن تخصص نسبة ثابتة من مقاعدها لمنح الجسيم، أو تساهم في صندوق وطني للمنح التعليمية يشرف عليه مجلس التعليم العالي، أو تقدم منحًا مباشرة للطلبة المستحقين ضمن إطار واضح ومعلن. كما يمكن للدولة أن تقدم حوافز معنوية أو إجرائية للجامعات التي تتبنى هذا النهج، كمنحها أولوية في بعض الاعتمادات أو تسهيلات في طرح برامج جديدة، الأمر الذي يحفظ التوازن ويخلق بيئة عمل أكثر عدالة.
من جهة أخرى، فإن تبني الجامعات الخاصة لمثل هذه المبادرة يساهم في تعزيز صورتها كمؤسسات تعليمية وطنية تحمل رسالة مجتمعية وليست مشروعًا تجاريًا فقط. كما يعزز ثقة المجتمع بها، ويمنحها مكانة إيجابية في الوعي العام، ويتيح لها أن تقدم نموذجًا ملهمًا في المسؤولية الاجتماعية المؤسسية، وهو اتجاه عالمي متقدم أصبحت الجامعات الرائدة في العالم تتنافس فيه.
في النهاية، ليست المسألة مجرد نقاش حول رسوم أو أرقام مالية، بل هي قضية قيم ووفاء وشعور بالمسؤولية الوطنية. أبناء الشهداء والمصابين ليسوا مجرد فئة تحتاج المساعدة؛ هم أبناء الوطن كله، وحقهم في التعليم ليس امتيازًا بل استحقاق. والجامعات الحكومية أدت دورها بكل احتراف، وقدمت ما تستطيع وأكثر. واليوم، آن الأوان لأن تمتد يد الشراكة من الجامعات الخاصة لتشارك ـ ولو بجزء يسير ـ في رد الجميل لذوي من ضحوا لحماية الوطن واستقراره.
يبقى السؤال مفتوحًا أمام الجامعات الخاصة: من ستكون الجامعة التي تبادر أولًا؟ من ستختار أن تضع بصمتها الوطنية على صفحة مشرقة من تاريخ التعليم في الأردن؟ ومن ستعلن أن التعليم رسالة قبل أن يكون مشروعًا اقتصاديًا، وأن الوطن يستحق من الجميع المشاركة في تحمل المسؤولية؟