عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Jun-2025

قراءة في «ليلة عيد الحب: كولاج حكي وحكَّائين» لمجدي دعيبس

 الدستور-مهدي نصير

هذا النص التجريبي لمجدي دعيبس والصادر عام 2024 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وأحدٌ من سرديات مجدي دعيبس الثرية والمتعددة والمتشعبة بين الرواية التي أصدر فيها رواياتٍ ست: الوزر المالح وأجراس القبار وحكايا الدرج وقلعة الدروز والحورانية والسيح، وأصدر أكثر من مجموعةٍ قصصية وله أكثر من مسرحيةٍ مخطوطةٍ وله أيضاً قصائدُ تفعيليةٌ جميلة.
هذا النص المفتوح على التجريب نصٌ مختلفٌ وهو أقرب لنوفيلا ذات شخصيتين (الزوج والزوجة) تتناوبان وتتبادلان السرد والرواية عبرَ تداعياتهما الحرة وأحلامهم ومفارقاتهم في ليلةٍ واحدةٍ هي «ليلة عيد الحب»، وعبر مائةٍ وثلاثين صفحة تم تشكيل هذا الكولاج من الحكايات والحكَّائين بلغةٍ عاليةٍ ومشرقةٍ ومتمكنةٍ من قيادة هذا التجريب بدرايةٍ وذكاءٍ ومهارة، وسأقرؤها معكم عبر الملاحظات التالية:
أولاً: كان عنوان هذا النص دقيقاً فهو كولاجان « كولاج حكي قادته سردية الزوج الذي احتلَّ وتماهى مع شخصية شهرزاد الحكَّاءةُ الأولى في هذفٍ يتماهى مع هدف شهرزاد الحكائي في ليلة عيد الحب واستحقاقاته التي يهرب منها الزوج بالحكي والحكايات (قصة مسعود ومرجانة وعندليب وحسن) التي توزعت وتقسَّمت على امتداد سردية الزوج، أما الكولاج الثاني فهو كولاَّج الحكَّائين والذي قادته سردية الزوجة في حلمها الذي تستدعي فيه حكَّائيْ الثقافات القديمة من ايسوب الاغريقي إلى ابن المقفع الفارسي المسلم لشهرزاد العربية إلى لافونتين الفرنسي وكريلوف الروسي واندرسن الدنماركي ويقودهم وينسق مؤتمرهم العالمي للحكي الأديب الأردني الراحل أديب عباسي.
ثانياً: الكولاج عُرف في مدارس الرسم والفن التشكيلي كمدرسةٍ أو شكلٍ يمزج ويجاور أشياءَ كثيرةً متجانسةً ومتنافرةً في اللوحة للتعبير عن فوضى العالم وعن التناقض والتنافر كجوهرٍ من جواهر الوجود، وأن التناقض والنقائض وتزامنها وتجاورها وتوازي قوة حضورها هي حقيقةٌ من حقائق هذا العالم، ووظَّف كثيرٌ من الشعراء والروائيين هذه الفكرة (جمع النقائض والمتنافرات بدون نسقٍ وبدونِ سياقٍ فلسفيٍّ أو نظريٍّ وايدولوجيٍّ مسبق)، فنجد أدونيس في عام 2000 يقيم معرضاً مشتركاً مع واحدٍ من أهم الفنانين التشكيلين الفرنسيين تحت عنوان «كولاج» والمطَّلع على هذه اللوحات يرى فيها صوراً لكائناتٍ بشريةٍ مشوَّهةٍ وأشكالٍ لكائناتٍ وموجوداتٍ يتداخل معها نصوصٌ شعريةٌ ونثريةٌ عربيةٌ بأحجامٍ مختلفةٍ وبعضها مكتوبٌ طولياً وبخطوط مختلفةٍ وبعضها كُتبَ مائلاً مع ظِلالٍ لتمزيق هذه النصوص وانتزاعها من مكانها النموذجي لتكون بهذا الشكل غير المنتظم مع كائناتٍ أخرى، إنها طريقةٌ تجريبيةٌ في التعبير عن التناقض الذي يسكن العالم، أما «الكولاج السردي» دون دخول السرد البصري الذي استخدمه أدونيس في كولاجه فهو أداةٌ سرديةٌ ربما سبقت الكولاج البصري: فالتداعي الحر واستدعاءات الذاكرة المرضية لبعض الشخصيات الروائية عبر مفاهيم علم النفس الفرويدي وتداخل الأزمنة وانتقال السرد من زمنٍ إلى زمنٍ آخر ومن مكانٍ إلى مكانٍ آخر داخل النص وبدونِ علاماتٍ تمييزية – وهنا كان لا بدَّ من كولاج بصريٍّ بسيطٍ موجَّهٍ للقاريء استخدمه بعض المبدعين كدليلٍ لهذا التجاور والتنافر الزماني والمكاني عبر الخط الغامق أو الخط المائل أو استخدام علاماتِ ترقيمٍ مختلفةٍ وغيرها – واستخدم هذه التقنيات الكولاجية روائيون وشعراء عالميون وعربٌ: كالصخب والعنف لفوكنر وما تبقى لكم لغسان كنفاني واستخدمها أيضاً الياس فركوح في بعض رواياته، وفي الشِّعر كانت قصيدة الأرض اليباب لإليوت هي النموذج الأعلى لحضور تداخل الأزمنة والأمكنة عبر تاريخٍ بشريٍّ طويل وملحمي شكَّل كولاج هذه القصيدة العظيمة، كذلك شكَّل تداخل الأصوات في القصيدة العربية المعاصرة وتداخل الساردين وتداخل الواقع بالحلم صيغاً مختلفةً من صيغ الكولاج السردي: جدارية محمود درويش نموذجٌ لتداخل الأصوات وبذكائه الإيقاعي ميَّز محمود درويش بين صوتي جلجامش وأنكيدو إيقاعياً، وسردية غالب هلسا نموذجٌ آخر لتداخل الواقع بالحلم ولم يستخدم غالب هلسا أيَّ وسيلةٍ بصريةٍ لتمييزهما وتركه لذكاء وفطنة القاريء وربما تركه لسببٍ آخر أعمق وأبعد.
ثالثاً: في كولاجيْ مجدي دعيبس (كولاج الحكي وكولاج الحكَّائين) لم يستخدم مجدي دعيبس أياً من أدوات الترقيم لبيان حدود مكونات هذا الكولاج فقد كان انتقال السرد بالتناوب بين الزوج والزوجة وكلٌ منهم يمثِّل ويستدعي كولاجاً متداخلاً مع كولاج الآخر في سهرةٍ حاول الشكل الخارجي للحكاية أن يخفي المكون العميق والذي حاول كلٌ من الساردين إخفاءه عن شريكه عبر الكولاج الخارجي للحكي (الزوج) والحكَّائين (الزوجة)، فسردية الزوج الشهرزادية احتلَّت كامل حصته من الكولاج حتى نامت الزوجة مع مفارقة تنسجم سردياً وتنفصم وتنحرف في نهاية هذا النص (الكولاج) بنوم الزوجة المطلوب سردياً في ليلة عيد الحب للزوج الذي يتفاجأ بأنه – ونتيجةً للحبة الزرقاء التي عاندت ودخلت بهذا الكولاج السردي وقلبته رأساً على عقب: ماذا يعني هذا الانقلاب الذي أحدثته صورةٌ زرقاء في هذا الكولاج؟، ربما يكون هذا السؤال الأعمق عن قدرةِ متغيرٍ صغير ليس من ضمن نسق السرد ولكنه ضمن كولاجه وقادرٌ أن يكون هو المتغير السيد: فالكولاج قادرٌ على خلق مفارقاتٍ قادرةٍ على نسف السرديات وإقلاقها وحرفها عن مسارها المتوقع ضمن النسق وليس ضمن الكولاج الذي لا يعترف بالأنساق.
رابعاً: في كولاج الحكَّائين وهو كولاج الزوجة عبر سرديتها وأحلامها وتداعياتها في ليلة عيد الحب والتي تسلب منها سردية وكولاج الزوج الشهرزادية دورها وشغفها فتذهب لعوالم الحكَّائين – لا الحكاية – لترى كيف يمكن إيقاف أو تحويل سردية الزوج المراوغة للهروب من الاستحقاق الذي تريده، فهي تبحث عن خالقي السرد وتستنجد بهم لحرف سردية الزوج عن مسارها أو إيقافها لصالح كولاجٍ خاصٍ كانت تريده من ليلة عيد الحب، ولكن هؤلاء الساردين النموذجيين الذين كانوا ينتظرون حضور شهرزاد النموذج والتي اعتذرت عبر خادمها عن الحضور وحين حضرت الزوجة ظنُّوها شهرزاد ولكنها خذلتهم وخذلوها ولم يتقبَّلوا وجودَها بينهم حتى تروي قصَّةً تروق لهم ووفق أنساقهم، فتجد نفسَها مجبرةً للخروج من المأزق لتأليف قصِّتِها وسرديتها ضمن كولاجها في هذا النص حتى يتم قبول هذا الدخول على النسق السردي الحكائي المنتظم فتروي لهم قصةً مختلقةً تؤلفها في الحلم عن الزوجات والبغايا في إحدى القرى والتي هي ردها على جهابذة القص التاريخي في مؤتمرهم الأول للحكي والذين بتنويعاتهم على القصة – قصة الذهب في الحقل - التي كانت اختباراً لهم ليكملها كلٌ منهم بطريقته، فأكملها كلٌّ منهم وفقاً لنسقه الثقافي فبعضهم أنهاها بالقتل والبحث عن الشرف وبعضهم أنهاها بالضياع وبعضهم بالسحر وبعضهم وظَّفها للعمل والإنتاج.. الخ، ولم يكن هذا التنوع هو الكولاج الذي تبحث عنه الزوجة لذلك كان لا بدَّ من كسر هذا النسق بقصتها الخارجة عن السياق كمكونٍ يوازي الأزرق في كولاج الزوج (نوم الزوجة في نهاية سردية الزوج المراوغة كان الرد السيميائي الذي شكَّل الجزءَ الأهم في كولاجها ولم تستطع قصَّتُها في مؤتمر الحكَّائين العالمي أن تخرج على سلطة النسق والخطاب الحكائي وهذا يعيدنا إلى ادوارد سعيد وسلطة الخطاب وسلطة النسق، والكولاج الذي أرادته الزوجة خروجٌ على السياق وخروجٌ على النسق لأنه لا يتشكَّلُ وفق آليات سلطته)، نقرأ هذا التداعي في كولاج الزوجة والذي جاءَ عفوياً ومُقحَماً على قصِّتها وموازياً لها في مؤتمر الحكَّائين العالمي، هذا التداعي الختامي الباحث عن حياةٍ في هذه الليلة لا عن سردٍ تنقصه الروح: «شعرتُ بالملل من هذه القصة التي تحاول محاكاة قصص ألف ليلةٍ وليلة، وتنقصها الشهوة التي لا أراها في عينيه وحركاته.. أعرف السبب، مشاكلُ الخمسين.
خرجتُ إلى البلكونة لأدخن سيجارةً عنَّت على بالي، كانت ليلةً دافئةً إلى حدٍ ما بالنسبة إلى شهر شباط.. الهدوء يخيم على الشارع فلا سيارات ولا مارَّة، الحارس يجلس أمام البناية ويتحدث على الماسنجر مع زوجته كما تهيأ لي، صوته عالٍ جداً، يسأل وهي تُجيب.
-    علفتِ الجاموسة؟
-    أي والله علفتها
-    حلبتِ المعزاية؟
-    حلبتها والأولاد تعشوا وناموا وأنا تعبانة ونعسانة
-    نعسانة يا بنت.. الليلة ليلة عيد الحب
-    عيد الحب؟؟
-    عيد الحب يا حب.» ص 127
هذه الخاتمة الهامشية لكولاج الزوجة هو جوهر الحكاية وهو جوهر ما أرادت هذه السردية أن تقوله: السرد الحي المليء بالشغف هو هذا السرد الهامشي البسيط للحارس وزوجته وليس سردَ الحكَّائين الذين أحضرتهم الزوجة في مؤتمرهم العالمي بقيادة إيسوب وأديب عباسي لتقول لهم: هذه هي الحياة (كولاجٌ وليست نسقاً) وهذا هو سردُها.
هذه المجموعة أو هذا النص المفتوح هو تداعياتٌ حرَّةٌ لزوجين في ليلة عيد الحب تخبأ كلٌّ منهم أو خبَّأ كلٌ منهم سرديته الحقيقية داخل هذا الكولاج المليء بالحكايا ليكتشفا أن الحكاية النموذجية خدعتهما ولا بدَّ من كولاج خارج النص وخارج السردية السائدة.
أبارك لصديقي مجدي دعيبس هذه القدرة على ضبط كولاجين متوازيين وتوظيفهما في مقولاتٍ ورؤى ومواقف ونقد والبحث عن مكوناتٍ جديدة تكون قادرةً على تغيير سرديتنا عبر عناصر كولاجية غير متوقعة وقادرة على التغيير لا ضمن النسق ولكن ضمن الكولاج وتناقضاته الواقعية.