الغد
ثمة دخان يتصاعد من بوابات الجامعة الأردنية، لا هو دخان فكر مشتعل، ولا قصيدة وُلدت للتو في قلب مكتبة، أو تجربة علمية لها نتائج واعدة، بل هو دخان شجار، وصراخ، وركلات، وشتائم من العيار الثقيل.. بين طلاب يُفترض أنهم "نخبة المستقبل".
نحن لا نتحدث عن حادثة طارئة، بل عن مشهد مألوف يُعاد بتقنيات مختلفة، فاليوم، كان دخانا ولكمات. وأمس، كان عصيّا ودماء، أما غدا – وهو قادم لا محالة- فربما شيء لا نجرؤ على تخيّله، وللإنصاف فالمشكلة ليست في الجامعة فقط، بل في المعجم الذي نحمله معنا إلى القاعات: معجم المباهاة الفارغة، والانتماء لما قبل الدولة، حيث يعلو صوت العشيرة على صوت الأستاذ، ويُرفع شعار "ابن عمي" فوق كل لائحة سلوك.
هل كانت موجة غضب محتقنة؟ ربما. طيب.. هل تشاجروا على "مبدأ"؟ لا يبدو الأمر كذلك، والغضب ليس القضية هنا، فالمشكلة ليست في أن يغضب شاب عشريني، لكن المعضلة الاجتماعية "والأمنية الحقيقية" في أن يغضب هذا الشاب دون أفق، ودون لغة، ودون لحظة مراجعة واحدة تسأله: ماذا أفعل؟ ولماذا أفعل ذلك؟.
الجامعة.. هذا المكان الذي كان يجب أن يكون مختبراً للحوار، صار مختبراً للغضب، ومتنفسا للاحتقان المكبوت، وهو غضب بلا معنى خطورته أنه مجرد طاقة منفلتة تبحث عن أداة، فتجدها في إحداث الأذى والرغبة الشديدة في التخريب.
نعرف الوصفة التي ستخرج علينا في البيانات والتحليلات، كلنا نعرفها، نكتبها بعد كل شجار، ونعيدها في كل ندوة: نحتاج إلى توعية، إلى تفعيل القوانين، إلى أن يكون هناك "ردع".. و"توجيه".. ومجالس تأديب.. إلخ. لكننا، في الحقيقة، لا نملك الشجاعة للسؤال الحقيقي: من ربّى هذا الطالب على كل هذا العنف؟ ومن علّمه أن الحوار ضعف، وأن الجماعة أقوى من القانون؟ كيف صارت "الحمية الجاهلة" بوصلة لحياته؟
كل شجار في جامعة هو صفعة للمجتمع، لا للطالب وحده، وكل عصبية تنفجر في ساحات العلم ليست أكثر من تعرية جديدة لهشاشتنا، و كل "أبطال المشاجرات" هم، في العمق، ضحايا، نعم.. هم ضحايا نظام تعليمي طارد للجمال، ومدرسة لا تدرّس الحياة، وأب عطّل دوره عند باب البيت، ومجتمع يحتفي بـ"الزلم" أكثر مما يحتفي بأفكارهم.
نحتاج إلى خيال تربوي جديد. نحتاج إلى أن نحلم بجامعة يصدر عنها شيء يشبه "الرأي" القائم على دراسة حقيقية لها نتائج فاعلة، لا "بيان اعتذار". نحتاج أن نربّي في الطلاب أسئلة معرفية، لا عضلات تترجم غضبهم العبثي إلى حالات تخريب وعنف. وأن نعلّمهم كيف يكون كل واحد منهم بمعرفته مواطنا في دولة، لا فرداً في قطيع.
ما حدث في الجامعة الأردنية ليس النهاية. لكنه، للأسف، ليس بداية النقاش أيضاً.