الدستور
كما لو أن لك، أنتَ وحكّامك، الحقَّ في تقرير من يستحق أن يعيش ومن لا يحق له ذلك، فلا تتوقع من أحدٍ أن يرغب في مشاركة الأرض معك، أو أن يقبل بك شريكًا في هذا العالم. هذا هو السبب، والسبب الوحيد، الذي يستحق أن تُشنق لأجله- حنة آرندت، فيلسوفة يهودية ألمانية.
عندما تقرأ الجملة: «كان علينا أن نوجد ظروفًا أشد إيلامًا من الموت»، قد تظن أنها مقتبسة من رواية رعب أو من عمل ديستوبي؛ من تلك الروايات التي تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، حيث تُصوَّر مجتمعات مستقبلية أو خيالية تنهار فيها القيم، ويطغى عليها الظلم، ويعمّها الخراب البيئي والاجتماعي. إنها «المدينة الفاسدة»، النقيض التام لليوتوبيا، المدينة الفاضلة.
وربما تظن أن الجملة وردت في إحدى روايات «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، أو في «1984» لجورج أورويل، أو «الطاعون» لألبير كامو. وقد يخطر ببالك أنها سطر في شهادة قاتلٍ متسلسل، أرهق الشرطة لعقدٍ كامل، قبل أن يُكشف عن عشرات الجثث المدفونة في حديقة منزله.
ولكن، هل ستصدق أن هذه العبارة قالها وزير «التراث الصهيوني» عميحاي إلياهو؟ لم يكن غاضبًا، ولا منفعلًا، ولم يتطاير من فمه رذاذ البصاق. قالها بهدوءٍ متزن، مرتديًا بدلة أنيقة وربطة عنق، تتصدّر وجهه لحية مشذبة قد تظنها، للوهلة الأولى، لشيخٍ وقور أو وليٍّ صالح.
كان تصريحه هادئًا، خاليًا من أي انفعال، كأنه بيانٌ روتيني من موظف حكومي يفسّر للناس سبب انقطاع الكهرباء بأنه ناتج عن ارتفاع الأحمال بسبب موجة حر، أو أن إغلاق الشوارع يعود إلى أعمال صيانة مؤقتة.
هل تساءلت يومًا كيف تُتخذ قرارات الإبادة الجماعية؟ وكيف تتواطأ معها الدول؟
جوابي المباشر: تُتخذ قرارات الإبادة حين تُدرج على جدول الأعمال، حين تُعلن من ملاعب الغولف أو تُناقش على موائد العشاء. حين يُقتل الأطفال والنساء بالقنابل، وتُدمر المستشفيات ومراكز الإيواء، ويصعد إلى المنصة بيروقراطي أنيق، بدأ يومه بجولة رياضية حول منزله، تناول الإفطار مع أطفاله، ودّع زوجته بقبلة، وسألها عمّا تحتاجه من السوق، ووجّه أطفاله ألّا يتنمّروا على أحد.
هذا نفسه، يعتلي المنصة ليدافع عن الإبادة الجماعية، يجمّلها، ويُطهّرها لغويًا، مستخدمًا مصطلحات منمّقة: «ضربات دقيقة»، «دروع بشرية»، «أضرار جانبية».
هؤلاء البيروقراطيون يُبدعون في التلاعب بالمفردات؛ فيتحوّل التعذيب إلى «استجواب»، والتجويع إلى «ضغط اقتصادي»، والتطهير العرقي إلى «مناطق أمنية عازلة» أو «مدن إنسانية». حتى مصائد الموت يعاد تسويقها تحت مسمياتٍ براقة، كـ»مؤسسة غزة الإنسانية».
ولنَعُد إلى وزير «التراث الصهيوني»، الذي يُكمل تصريحه قائلًا: «لم يعد الموت كافيًا، يجب أن يكون مؤلمًا، طويلًا، متحررًا من أي محاسبة دولية.»
حتى أعتى الطغاة في التاريخ حرصوا على إخفاء نواياهم عند ارتكاب الجرائم. فعندما ذبح القرامطة الحجيج في مكة عام 317هـ، زعموا أنهم يفعلون ذلك لتحطيم الأصنام. وحين ارتكب الحجّاج مذبحة الفرات ضد أهل العراق، كانت الذريعة «الفتنة». وحتى حين ارتكبت الولايات المتحدة مجزرة «ماي لاي» خلال حرب فيتنام، وصفتها بأنها «اشتباك عسكري».
لكن هذه المرّة، ولأول مرة في التاريخ، يعترف أحدهم علنًا بأنه ينفّذ إبادة جماعية، وهو في أبهى حلّة، مرتديًا بدلة وربطة عنق. ومع ذلك، فهي الإبادة الأكثر بطشًا وبشاعة في تاريخنا الحديث.
وربما، يومًا ما، سيُستدعى هؤلاء المجرمون إلى المحاكم، وتُوجَّه إليهم تهم بارتكاب جرائم حرب. وسيدافعون عن أنفسهم ببرود: «كنا ننفّذ الأوامر»، أو «لم تكن سوى إجراءات عمل»، دون ألم، دون ندم، ودون أدنى شعور بالذنب أو المسؤولية.
وهذا بالضبط، ما وصفته حنّة آرندت بـ»تفاهة الشر».