عمان والدوحة... موقف مشترك من العدوان*سلطان الحطاب
الراي
وصول الأمير تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر الى عمان، قادماً من الدوحة الجريحة، وقد حمل دم القبيلة والدولة، قبيلة (قطري)، الذي أطلق أسمه على المكان، "قطر كلها" وهي قديمة في التاريخ، حدود الكيان السياسي لدولة قطر المعاصرة، بل أن إسم قطري كان دالاّ على المكان وكان قطري بن الفجاءة زعيما قائداً قد رفض الاستسلام وخرج بسيفه الذي لم يعرف غمداً يدافع عن المكان والكرامة ويرد ظلم الظالمين ويغير بروحه ويشجعها يحاورها على الخروج والتضحية ويقول مخاطباً روحه التي دخل بها في المعركة بشجاعة
أقول لها وقد طارت شعاعاً
من الأبطال ويحك لن تراعي
فأنك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاعي
ويدفعها الى التضحية انتقاماً للكرامة وفي سبيل الوطن والأهل، ويقول لها:
فصبراً في مجال الموت صبراً
فما نيل الخلود بمستطاع
هذه الأيام يعتدي الاحتلال الاسرائيلي على قطر ويجري غدرها "ومن مأمنه يؤتى الحذر"، ولذا وصف القطريون العملية، بالغدر، لأنهم لم يكونوا يتوقعون ذلك، واختلط الدم القطري بالفلسطيني باستشهاد بدر سعد الدوسري في صيغة أصرت على حماية المستجير وحفظه وافتدائه، وأن النيل منه وهو في الجيرة عمل خسيس، لا تقبله النفس العربية ولا أعرافها وتقاليدها.
كان الأمير تميم غاضباً وقد رأيناه في القمة وقد جاء اليه قادة الأمة العربية والإسلامية لتقديم واجب العزاء والوقوف مع قطر في محنتها وانهم يقفون معها، وهذه ما أكده بشكل واضح الملك عبد الله الثاني بن الحسين الذي يزوره أمير قطر في عمان الآن حيث يمتد العدوان من غزة الى الدوحة.
ما زال الجرح القطري طرياً وما زال هناك الطائر الأسطوري يحوم فوق الرؤوس ويدعو للرد على الغدر والعدوان والانتقام (تقول الهامةاسقوني ).
أعود الى التاريخ وأرجو أن لا يتحسس قراء السياسة البراجماتيون، الذي يريدونها مقشرة بلا بذرة ولا جلدة، وأجد في مداخلة الرئيس السوري، أحمد الشرع، الذي فاجأ الجميع في القمة بان فتح نافذة على التاريخ وأغترف منه أبياتاً من الشعر تحمل دلالة اخلاقية وقيمة عربية إستحضرها لأجواء القمة وسط حالة غريبة لم يفهمها ساعتها السامعون ولكنه رئيس الدولة كان مسموحاً له أن يقول، ولو أن مثقفاً عربياً أوردها لاصابه السين والجيم
ما الذي أراد الرئيس الشرع ان يقوله؟ ولماذا هذه الإطلالة الادبية التاريخية على الشعر الجاهلي وأخذ قطعة منه وزجها في العجين العربي لعله يخمر وتنشر الأبيات في القاعة على حساب خطاب لم يتجاوزالدقيقة او الأربعة أسطر ليقول ما يريد ويمشي وينشغل الآخرون ويبحثون عن دلالاته.
أراد الشرع أن يقول كيف تكون السياسة التي يؤمن بها وموقف السياسي الذي لا يقبل المألوف، وإنما يبحث عن حالة إتكاء على التاريخ أو توظيف له، فقيمة التاريخ ليس في الذهاب اليه او حفظه وسرد وقائعه، وإنما في استلهام دلالاته ومعانيه وحكمه، وقد قالها الشرع بهذا من أبيات قليلة من قصيدة، عمرو بن براقة شاعر همدان
"متى تجمع القلب الذكي وصارماً وآنفاً حميا تجتنبك المظالم".
إذن لا يمكن ان يبتعد عنك الظلم الاّ برده، ورده لا يكون الاّ بقلب قوي، شجاع وذكي وسلاح صارم تحمله آنفة واعتزاز وحمية، وتلك قيم عربية غابت أو كادت، ولكن من يؤمنون بها أعادوا استحضارها للقمة، وقد ذكرها الشرع واكتفى واعتبرها مشخصة للحالة العربية التي تلزمها الشجاعة والقلب الذكي، والسيف والاستعداد والسلاح والآنفة والحمية، عندها لن يفكر العدو في أن يلحق الظلم بالأمة.
كنت استمع لكلمة الشرع، واتوقف عند كلمة الملك عبد الله الثاني، وهو يقول، :لا بد أن تخرج قمتنا اليوم بقرارات عملية لمواجهة هذا الخطر لوقف الحرب على غزة، لمنع تهجير الشعب الفلسطيني لحماية القدس ومقدساتها، فالعدوان على قطر دليل على ان التهديد الاسرائيلي ليس له حدود، ردنا يجب أن يكون واضحاً وحاسماً ورادعاً".
هذه القيم التي تحدث فيها الملك عبد الله، جاءت ايضاً ملخصة ومكثفة في شعر الشاعر الجاهلي المثقب العبدي في قصيدته الشهيرة اليائية وأذكر ذلك وأترحم على استاذي بكلية الأداب في الجامعة الأردنية، هاشم ياغي، استاذ الأدب الجاهلي في الجامعة الأردنية، حين كنا طلاباً، مطلع السبعينات من القرن الماضي، كان الدرس يومها عن أبي نواس، وقصيدته الشهيرة، دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
، كان جوّ معركة الكرامة الظافر مخيماً على معنويات الطلاب وارادتهم والاحساس بضرورة تجسيد اللحظة، فقال الدكتور، نؤجل قراءة نص ابي نواس وادعوكم لقراءة نص المثقب العبدي في قصيدته، التي يحدد فيها موقف القوى الأخرى المتنفذة من قبيلته آنذاك واستخلاص القيم التي جاءت عليها أبيات شعره.
أذكر انه نظر الي وقال، الحطاّب أذهب الى المكتبة واقرأ في كتاب "المفضليات "، قصيدة المثقب العبدي وأحضرها لنتحدث في ما حوته من قيم ودلالات.
ذهبت وكنت أعرف أين أجد المعلومة بحكم عملي كطالب في المكتبة لساعات كان الطلاب يستريحون فيها، كان المثقب شاعرا فحلاً، من شعراء قبيلة بني عبد القيس في منطقة البحرين، وكان العدوان على قبيلته يتجدد، وكانت مستضعفة، وكان حائراً باعتباره شاعرها وزعيمها في طلب النصرة لها واشتراطات الداعمين لنصرته وموقفهم منه وموقفه هو، منهم وكيف يجب أن يحدد المواقف بدقة.
كانت زوجة المثقب قد دخلت الاسلام والتحقت بالمسلمين المهاجرين للفتح وتركته فودعها بداية القصيدة الشهيرة قائلاً،
أَفاطِمُ قَبلَ بَينِكِ مَتِّعيني
وَمَنعُكِ ما سَأَلتُكِ كان تَبيني.
الى أن وصل أن يحدد موقفه من قائد القوى المتنفذة وهو الامير عمرو بن هند الذي أراده أن يكون الى جانب قبيلته التي تواجه الغزو والفناء.
والقصيدة طويلة وجميلة ولكنني اتوقف عندها وأريد استخلاص وتوظيف قيم تحديد الموقف من الآخر، سواء كان صديقاً او عدوا وهو أمر لم تبلغه الأمة حتى الآن، وقد بلغه المثقب العبدي وتركه لأمتنا أن تستفيد منه،
وصل المثقب الى بلاط الملك عمرو بن هند، وخاطبه بشجاعة ووضوح ويقول :
الى عمرو ومن عمرو أتتني
أخي النجدات والحلم الرصين
فَإِمّا أَن تَكونَ أَخي بِحَقٍّ
فَأَعرِفَ مِنكَ غَثّي مِن سَميني
وَإِلّا فَاِطَّرِحني وَاِتَّخِذني
عَدُوّاً أَتَّقيكَ وَتَتَّقيني
وَما أَدري إِذا يَمَّمتُ وَجهاً
أُريدُ الخَيرَ أَيُّهُما يَليني
أَأَلخَيرُ الَّذي أَنا أَبتَغيهِ
أَمِ الشَرُّ الَّذي هُوَ يَبتَغيني
وحتى لا أطيل، فإن المعنى المقصود وهو يطلب النصرة لقبيلته، يخاطب القوى القائمة آنذاك أن تنصف بني عبد القيس وتمنع عنهم القتل والغزو، ويطالب زعيم ذلك الزمن عمرو بن هند أن يكون موقفه واضحاً بعد أن يمتدحه، فإما أن يكون معه في أخوة بحق ويعرف طبيعة موقفه والا عليه أن يتركه لغيره ويتخذ منه بدل الصداقة عداوة له يحظره ويتقيه، والشاعر المثقب في ذلك حائر لكنه شجاع ومواظب ومتسائل عن موقفه واختياراته، هل هو يريد الخير من الآخرين الأقوياء، الخير الذي يبتغيه أم أنه لن يجد عندهم ذلك ليواجه الشر الذي مازال يداهم قومه وينكر الآخرون مساعدته .