الشخصية الاستعراضية على السوشال ميديا.. هل هي قناع لاضطراب نفسي؟
الغد-رشا كناكرية
عالم رقمي بشخصيات مثالية، هذا ما نراه اليوم عبر منصات التواصل الاجتماعي "السوشال ميديا"؛ شخصيات مثقفة وحالمة تقرأ كتابا أو تحتسي القهوة أو المشروبات الصحية، وآخرون يعرضون حياة منظمة ورياضية؛ هذا ما يحاول الكثيرون من رواد مواقع التواصل إظهاره عبر صفحاتهم الشخصية.
وإن كانت زائفة وغير حقيقية ولا تمثلهم، إلا أنها شخصياتهم "الاستعراضية" التي اختاروا إظهارها عبر حياتهم الرقمية، يرافقها خوف من اكتشاف حقيقة أنفسهم.
وهذا ما عاشه أمجد (33 عاما) في فترة من حياته، بحسب قوله، إذ كان يشارك صورا له وهو يتصفح الكتب في محاولة منه ليبدو أمام الآخرين كشخصية مثقفة وتحب القراءة. معترفا أن الواقع كان عكس ذلك تماما، فلم يكن من محبي القراءة بل كان يجدها مملة، لكنه كان يبحث عن الاهتمام وأن ينظر له الآخرون باحترام وتقدير.
لكن سرعان ما كانت هذه الصورة تهتز ويظهر زيفها عند سؤاله عن أحد الكتب التي نشر أنه يقرأها، ليتلعثم في الإجابة ويتوتر، ويرى في عيون الآخرين علامات استفهام.
ويبين أمجد أنه بعد تعرضه لهذا الموقف لأكثر من مرة، أدرك أنه يمشي في طريق لا يشبهه ويؤذيه، فاختار من بعدها ألا يكون غير نفسه ويشارك ما يعبر عنه في صفحته الشخصية، منوها أن هذا الأمر احتاج منه بعض الوقت.
وهناك الكثيرون غير أمجد من رواد مواقع التواصل الذين يظهرون تصرفات على السوشال ميديا ويستعرضون تفاصيل حياتهم بقوالب معينة، لكنها في الحقيقة لا تشبههم.
وهذه الشخصيات الاستعراضية التي تبحث عن جذب الانتباه والاهتمام قد تكون من الداخل فارغة وشخصية مهزوزة، وتفعل كل ذلك لتجد قبولاً عند الآخرين لتظهر بصورة أفضل. وهنا يبرز السؤال: هل وراء هذا الاستعراض اضطرابات نفسية مخيفة؟
ويبين الاستشاري النفسي والمحاضر الدولي المعتمد يزيد موسى أن هنالك دوافع لاستعراض بعض رواد المواقع تفاصيل لا تمثل شخصياتهم، وهذه الدوافع غالبا ما تعكس احتياجات داخلية غير مشبعة، وغالبا تكون لا واعية.
ويذكر موسى أن في مقدمة هذه الدوافع تأتي الحاجة للقبول والانتماء، موضحا أن بعض الأشخاص يشعرون بأن قيمتهم تقاس بعدد الإعجابات والمتابعين، فيلجأون لخلق صورة مثالية حتى ينالوا الحب والاعتراف من الآخرين.
وثانيا؛ الهروب من الواقع، بمعنى أن الفرد حين يشعر أن حياته الحقيقية عادية أو مليئة بالإحباط، يلجأ لخلق نسخة خيالية تعكس ما يتمنى أن يكون عليه. وثالثا؛ تعويض النقص الداخلي، مبينا أن شخصا نشأ في بيئة لم تمنحه التقدير قد يستخدم السوشال ميديا كمنصة لتعويض هذا النقص عبر المدح والاهتمام.
وأخيرا المقارنة الاجتماعية، فمع كثرة المحتوى المثالي على المنصات، يبدأ الفرد بالشعور بأنه أقل من غيره بحسب موسى، لذلك يحاول "مجاراة" هذا المستوى عبر الاستعراض، ويقول موسى "ببساطة، الدافع الأساسي غالبا هو إشباع احتياجات نفسية مؤجلة أو إخفاء هشاشة داخلية".
ويؤكد موسى أنه في بعض الحالات يكون الاستعراض أحد أعراض اضطراب نفسي وليس مجرد سلوك سطحي، موضحا ان أبرز الاضطرابات المرتبطة منها، اضطراب الشخصية النرجسية (NPD)، حيث يسعى الفرد لخلق صورة مثالية عن نفسه، ويحتاج باستمرار إلى الإعجاب والتقدير.
بالإضافة إلى اضطراب الشخصية الهستيرية (HPD)، والذي يتميز بالبحث المبالغ فيه عن الانتباه، والعرض المفرط للمشاعر أو المظهر، بالإضافة إلى اضطراب الهوية أو فراغ داخلي عميق فقد لا يكون اضطرابًا محددًا، بل شعورا بعدم معرفة الذات، فيكون الشخص "هوية وهمية" عبر السوشال ميديا.
والقلق الاجتماعي المقنّع أحدها بحسب موسى، إذ إن بعض الأشخاص يستخدمون هذه الشخصية الاستعراضية كقناع لإخفاء قلقهم أو ضعف ثقتهم بأنفسهم، ولكن وجب التوضيح أن ليس كل من يستعرض يعاني من اضطراب نفسي، فقد يكون السلوك مجرد عادة مكتسبة أو محاولة لتسويق الذات.
ويشير موسى إلى أنه على المدى الطويل، هذا النمط من الاستعراض يحمل تأثيرات نفسية سلبية جدًا، منها فقدان الهوية الحقيقية، إذ يصبح الشخص غير قادر على التمييز بين شخصيته الحقيقية والشخصية المصطنعة التي يقدمها للعالم. ويرافق ذلك أيضا القلق الدائم، لأن الحفاظ على هذه الصورة المثالية مرهق، فيعيش الفرد تحت ضغط الخوف من انكشاف حقيقته، بحسب موسى.
ويضيف موسى أن هذه الشخصية الاستعراضية قد تسبب الإدمان على القبول الخارجي، بحيث ترتبط مشاعره بمؤشرات رقمية مثل عدد الإعجابات أو المشاهدات، ما يسبب تقلبات مزاجية حادة، وقد يكون أخطرها الاكتئاب والعزلة فعندما يكتشف أن صورته المثالية لا تشبع احتياجاته الحقيقية، قد يدخل في مرحلة إحباط وشعور عميق بالفراغ.
ومن جهة أخرى قد تسبب ضعف العلاقات الحقيقية، لأن الآخرين يتعاملون مع "القناع" وليس مع الذات الحقيقية، ما يخلق علاقات سطحية وغير آمنة.
ويبين موسى أن التعافي من هذه الشخصية الاستعراضية يتطلب وعيا وتدرجا، وليس قرارًا لحظيًا، وبداية يجب الاعتراف بالمشكلة فأول خطوة أن يدرك الشخص أنه يعيش حياة مزدوجة، وأن الاستعراض لا يُشبع احتياجاته النفسية الحقيقية.
ووفق موسى، يأتي التواصل مع الذات وتخصيص وقت للتأمل والكتابة أو العلاج النفسي لفهم من هو فعلًا، وما الذي يريده بعيدًا عن أعين الآخرين.
إلى جانب التقليل التدريجي من الاستعراض، مبينا أنه لا يُنصح بالتوقف المفاجئ لأنه قد يسبب صدمة نفسية إذ يمكن للفرد البدء بخفض المحتوى غير الواقعي تدريجيا واستبداله بمحتوى صادق.
ويؤكد موسى أنه على الفرد بناء مصادر تقدير ذاتي داخلية مثل تعلّم مهارة، التطوع، أو تحقيق إنجاز حقيقي يُشعره بالقيمة بعيدًا عن السوشال ميديا.
والأهم طلب مساعدة مهنية إذا كان السلوك مرتبطًا باضطراب نفسي بحسب موسى، فالعلاج المعرفي السلوكي (CBT) أو العلاج النفسي الديناميكي يمكن أن يكون فعالًا جدًا.
ويختم موسى حديثه مؤكدا على أهمية إيجاد بيئة آمنة و محيط داعم يشجع على الصدق والقبول غير المشروط، بدلاً من بيئة قائمة على المظاهر، مبينا أنه بهذه الطريقة يمكن للفرد أن يتحرر تدريجيًا من الشخصية المصطنعة، ويعيش حياة أكثر صدقًا، وهدوءًا، وارتباطًا بذاته الحقيقية.