عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Nov-2025

المتلقي المذعن ومشروع الزعبي لتحرير الحضور النقدي

 الدستور-نور فيصل بني عطا

 
    يحمل كتاب «المتلقي المذعن» للدكتور زياد الزعبي منهجا بحثيا لطالما لفت الباحثين إليه في كثير من دراساته، وجاءت دعوته هذه نابعة من موقفه الرافض لفكرة الإذعان عموما، والإذعان لأي مركزية فكرية، وكذلك لأي ثابت في ميدان البحث العلمي تحديدا؛ إيمانا منه بأن ميدان البحث يبقى مشرعا أبوابه أمام كل مستجد، فلو احتمل هذا ثباتا وتحجرا، لبقينا عند الثابت البحثي في المربع الأول.
 
    فتكونت ملامح هذا الفكر لديه مبكرا منذ رؤيته البحثية الأولى، وذلك في تحقيقه ديوان مصطفى وهبي التل «عشيات وادي اليابس»، وتقديمه «عرار» شاعر الأردن في صور مغايرة لما هو شائع عنه في ميدان البحث المذعن للنمط والتكرار، وذلك بعد مساءلته النقد الدائر حوله؛ بالرجوع إلى وثائق فريدة حصّلها بعد جهد كبير ومشهود، واستمر هذا التوجه لديه بفعل دعوته المتكررة للباحثين إلى إعادة قراءة الديوان والنقد حوله.
 
    ورافقه هذا المنهج في دراسته فكرة المثاقفة وتحولات المصطلح في أكثر من جهد بحثي أذكر منها مثلا: دراسته «المثاقفة وتحولات المصطلح: دراسة في المصطلح النقدي» وكذلك «الترجمة و توليد المصطلح - الميتافورا الأرسطية في النقد العربي» و» التعجيب عند ابن سينا المصطلح والمفهوم» و»الفلاسفة المسلمون وفن الشعر الأرسطي في دراسات المستشرقين الألمان» وكذلك في دراسته «المنهج السيميائي: إشكاليات التنظير ومتاهات التطبيق محاورة المنهج السيميائي في الدراسات العربية المعاصرة» استجابة منه لما يدور حول هذه الفكرة من جدل حول تبعية الفكر العربي للفكر الغربي والعكس أيضا، وكذلك حول ثوابت تم تحطيمها هناك ولكنها استمرت هنا، ليتوصل إلى رؤية منطقية تشير إلى أن الأمر عائد لفعل المثاقفة في تبادل العلوم، نتيجة الترجمة خصوصا، والتعامل مع طرق الانفتاح على الآخر عموما، وكذلك إلى كيفية ضبط المصطلحات وتحويلها بعد النقل.
 
     ولم يغب عنه أن يشير إلى بعض المتاهات على صعيدي التنظير والتطبيق في التعامل العربي مع المناهج النقدية، الناتجة بالضرورة عن الإذعان في التلقي. واستجابة لما قدمه من إشارات في دراسته»المنهج السيميائي: إشكاليات التنظير ومتاهات التطبيق محاورة المنهج السيميائي في الدراسات العربية المعاصرة»؛ أذكر أن الدكتور الزعبي قدم في عمل مشترك مع الدكتورة إيمان شلبي - وكانت حينئذٍ طالبة تدرس على يديه في مرحلة الدكتوراة- دراسة جاءت بعنوان: «نظريات دي سوسير- المرجعية والمرجعية النقيضة (قراءة مفارقة)» وقدما فيها قراءة تكاد تكون نقيضة لفكر «دي سوسير» ونظرياته التي انبثقت من الكتاب المنسوب إليه CLG»»، واستندت هذه القراءة إلى الاكتشافات الأخيرة المتعلقة بأصول كتابه، وإلى الدراسات الغربية التي أَخضعت مدونته اللغوية لنقد حاد شكك في مجمل ما قدمه بعد تجريده من سلطته المعارة؛ ليصبح في نظرهم فبركة كبرى!
 
   وقرأ كذلك في كتابه» مسارات القراءة مسارات النصوص مداخل في قراءة النص الشعري» مجموعة من النصوص الشعرية استنادا إلى رؤيته التي تتمثل في أن للنصوص، مسارات وللقراءة مسارات، وأن القراءة تنهض على المرجعيات المعرفية المكونة للنص؛ فإن كان النص يتشكل اعتمادا على مرجعيات معرفية متعددة الأبعاد مكنت من إنتاجه، فإن قراءته بالتالي لابد أن تعي مكوناته ومرجعياته المعرفية، على نحو يمكنها من محاورته، مما يعني أنا هذه القراءة تعاين النص نسقيا معاينة تقود إلى سياقاته، في إشارة إلى أنه لا يمكن أن نأتي بالثابت لقراءة البنية والسياق ونجبر النص عليه، ونلوي عنقه إن أبى الإذعان، وإنما لابد من مساءلة النص أولا، والبحث في طبقاته المعرفية، ومن ثم تأمل ما تعكسه هذه البنى النسقية من سياقات، على نحو يمكننا من تقديم قراءة واعية للنص.
 
     وجاء كتابه «المتلقي المذعن» تتمة لمنهجه ويتضمن خلاصة رفضه لتبعية المتلقي للنص، أو لأي توجه فكري، دون مساءلة القضية والبحث في إشكالاتها؛ فقدم إزاء ذلك مساءلته الكبيرة لنظريات التلقي العربية والغربية ليحدد من خلالها دور المتلقي وموقعه من عملية التلقي، فأكد بالتالي على أنه يقع عليه العبء الأكبر في استنطاق النص ليجعله يفصح عن معنى جديد مع كل قراءة يقرأ بها، فيضمن له بالتالي خلودا أبديا كفعل مضاد لفعل الموت الذي يأتي نتيجة حتمية للإذعان.
 
     وعليه؛ جاء الكتاب نتيجة مد بحثي فكري وتجريبيي طويل قام به الزعبي خلال عمله البحثي الممتد منذ البحث الأول إلى اليوم؛ فقدم خلاصة رؤيته هذه في ستة فصول، جاءت كمتتالية نقدية، مزودة بنماذج استدلالية داعمة لفكرة مركزية مفادها، نبذ التبعية والإذعان في التلقي، والدعوة لضرورة التفكير ومحاورة النصوص للتخلص من البؤس المعرفي للتراث الفكري العربي، الذي تمت قراءته غالبا قراءة نمطية موضعية عابرة اكتفت بالمتداول والشائع والمختار والذائع، الذي أسقط الكثير من النصوص ذات الشأن في هذا الميدان من دوائر الاهتمام إلى دوائر التغافل، والعكس صحيح.
 
    ومن الإطار الكبير، يستمد الزعبي رؤيته في نبذ الإذعان على مستوى التعامل مع النص وجمالياته؛ ففي الفصل الأول «المتلقي المذعن عند حازم القرطاجني» يشير الزعبي إلى أن حازم القرطاجني يستعمل استراتيجية التمويه القائمة على  سلسلة من الوسائل التي ترتبط بالطبيعة الجمالية للشعر، القادرة على استشارة انفعال المتلقي المترجم في الانبساط أو الانقباض، لينحصر هذا الانفعال في الحدود النفسية فقط، بعيدا عن منطقة الوعي والفكر لدى المتلقي، وهي في رأي حازم القرطاجني وأساتذته من قبله الفاعلية السيكولوجية المحورية للتخييل، التي تجعل المتلقي يذعن للصورة المخيلة له.
 
   وفي الفصل الثاني» السيميائية إشكاليات التنظير ومتاهات التطبيق» أشار إلى الهدف من الوقوف على النماذج وبيان غياب الخصائص المميزة للمنهج السيميائي المتعلقة بإشكاليات التنظير ومتاهات التطبيق التي أشار إليها في دراسة سابقة في الإطار ذاته، ومن هنا فإنه يبين أن دراسات تطبيقية كثيرة لم تفعل شيئا سوى وصف الدراسة بأنها سيميائية، دون أن تحضر فيها أي علامات تدل على سيميائيتها، وأنه من هنا فإن عشرات القراءات الموسومة بالسيميائية يمكن أن تنسب إلى منهج أو مناهج أخرى، دون أن يخل هذا برؤاها.
 
     أما الفصل الثالث «مصطلح الخطاب وتجلياته في الدراسات الحديثة» فيمثل تأكيدا على ضرورة ضبط المصطلحات المنقولة عبر الترجمة مثلا لتناسب السياق النقدي الذي نقلت إليه، وذلك تجنبا لانفتاح المصطلح على مفاهيم واحتمالات غير محدودة، يمكن أن تخرجه من إطار الموضوع الذي يطرح فيه، وجاء بمصطلح «خطاب» مثالا توضيحيا لذلك.
 
   وتناول في الفصل الرابع» التناص تناسل النصوص وذاكرة القصيدة العربية» إزاء قضية السرقات الأدبية؛ فبين أنه جاء تعبيرا عن هجرة النصوص وتوطنها في ثقافات ولغات أخرى، أخذت أشكال متعددة ومختلفة من التحولات والتكييف، أو بالتأثر أو بالتناص، أو بالسرقة بالمقابل، في صور متعددة من خلال مقارنته بين عمل جوته في «الديوان الشرقي»، وعمل ركورت في «الورود الشرقية» بالمقابل، ليعيد النظر بذلك إلى عملية التأثر أو الأخذ.
 
    ودعا في الفصل الخامس إلى ضرورة التحرر من الإذعان في النظر إلى «القضايا النقدية عند ابن خلدون الأصول والتحولات» ليخلص بالنهاية إلى أن عمل ابن خلدون في المقدمة، الذي نظر وينظر إليه من خلال تقييم إعلائي، ما زال يحتاج حاجة ماسة إلى الوقوف على مرجعياته المعرفية، التي مكنته من بناء علم يرتبط باسمه، وقضايا عديدة وقف عليها مؤلفا وصائغا ومستعيرا، جعلت من المقدمة إحدى أهم المدونات الثقافية العربية.
 
   وفي الفصل الأخير» التخلص في القصيدة العربية» بحث في مصطلح التخلص فانشغل بجذوره التاريخية، ومواطنه في القصيدة، وصوره بين القدماء والمحدثين. في إطار التأصيل للمصطلح، مشيرا إلى أن المصطلح لم يأخذ صفة الثبات دلالة وتسمية عند جميع النقاد القدامى، وبين أن تطور المصطلحات وتشعبها أدى إلى تداخل بين التخلص والاستطراد، مشيرا إلى أن المحدثين طوروا منه صورا جديدة، تحولت بمرور الزمن وبتكرار استخدام الشعراء لها إلى أنماط، كالتخلص بالتشبيه، والتخلص بالاستفهام، والتخلص بالقسم.
 
   خلاصة القول، شكل كتاب «المتلقي المذعن» منهجا بحثيا قيّما، وجاء الكتاب استكمالا لرؤية بحثية ممتدة منذ بدايات الزعبي النقدية؛ فهو خلاصة مشروع بحثي يمكّن الباحثين من إعادة قراءة الكثير من النتائج المعرفية السابقة في ضوءه؛ إذ إنه يلفت نظر الباحثين إلى ضرورة مساءلة التراث النقدي من جديد ويفتح الآفاق أمامهم لإعادة النظر في النتائج البحثية من منظور جديد، قائم على تراكم معرفي جديد، بعيد عن القوالب الجاهزة التي تجعل الباحث يدور في إطار النمطية والوصفية في تناوله للمعرفة السابقة.