عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Nov-2025

((إتبعوا خطوط البترول)).. ليس مجرد عنوان كتاب!*د. زيد حمزة

 الراي 

اذا اردت ان تعرف اكثر فاقرأ اكثر، تلك بديهية قديمة لا تبلى ولو انها اضحت من نافلة القول، اما اذا اردت ان تعرف الاسرار وبواطن الأمور السياسية في هذا العصر المتشابك السياسات حد التعقيد المخطط له، والتضليل المقصود بلا وازع من خلق، فاتبع خطوط انابيب النفط حيثما تمتد او تُمدّ !.. هذه هي النصيحة الجديدة التي تسديها لنا المحامية والصحفية الاستقصائية الاميركية شارلوت دينيت في كتابها المعنون Follow The Pipelines المنشور عام ٢٠٢٠، وقد كان هدفها الأصلي من تأليفه كشف الخفايا المحيطة بمصرع والدها دانييل دينيت الجاسوس الامريكي الرئيسي في منطقتنا إبان الحرب العالمية الثانية وذلك في تحطُّم طائرة النقل العسكرية 47-C رقم الرحلة 3804 التي كانت تقله من جدة في السعودية متوجهة إلى أديس أبابا في رحلة عمل، باصطدامها بسفح جبل في منطقة نائية في إثيوبيا في ٢٤ أيار ١٩٤٧ ومقتل جميع من فيها وهم ستة اميركيين؛ اربعة رجال أمن والاثنان الآخران مدنيان هما حسب قائمة الركاب: والدها الملحق الثقافي للولايات المتحدة في بيروت الذي، حسب المؤلفة، كان يستخدم وظيفته في وزارة الخارجية كغطاء لعمله الاصلي في مجموعة الاستخبارات المركزية CIG التي سبقت وكالة الاستخبارات المركزية CIA (وذلك في عصر الاستخبارات البريطانية حين اشتهر اسم كيم فيلبي الذي عرفه العرب جيدا آنذاك)، والملحق البتروليّ الامريكي في القاهرة، وقد قام فريق من المحققين الامريكيين بتمشيط موقع الحطام حيث كان في الطائرة حمولة ثقيلة من اجهزة الراديو شديدة السريّة بالاضافة إلى كاميرا متطورة للتصوير الجوي، وكان ركابها متوجهين الى أديس أبابا للاجتماع بمسؤولين من شركة سنكلير الاميركية التي كانت قد حازت مؤخراً على موافقة استثنائية من الإمبراطور هيلا سيلاسي على حق التنقيب عن البترول في جميع الأراضي الإثيوبية، وجاءت نتيجة التحقيق بان سبب الحادث سوء الطقس وليست هناك شبهة عمل تخريبي! لكن المؤلفة شارلوت التي لم تكن قد تجاوزت الشهرين من عمرها حين قتل والدها رفضت كما يبدو تلك النتيجة وصممت بعد ان كبرت وامتهنت الصحافة ان تتابع البحث عن حقيقة مصرع والدها، وقد استغرقها ذلك خمسة عقود كاملة من التمحيص والتدقيق في الصراعات اللاأخلاقية التي كانت تدور سراً بين اجهزة استخبارات دول كانت من قبل متحالفة لدحر المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وهي بريطانيا وفرنسا بما في ذلك بلدها الولايات المتحدة الامريكية التي كانت تزحف من خلف البحار والمحيطات منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر لترث جميع الإمبراطوريات الآفلة في المنطقة وتستحوذ بشكل رئيسي على الثروة النفطية الهائلة فيها! واخيرا نجحت شارلوت دينيت قبل سنوات قليلة بالوصول إلى ما اقنع القيادة العليا لجهاز الاستخبارات المركزية بصحة استنتاجاتها المبنية على الوقائع الموثقة بان سقوط طائرة والدها عام ١٩٤٧ كان عملا تخريبياً قامت به اجهزة الجاسوسية البريطانية ضمن الصراع والتنافس على الثروات البترولية في المنطقة ومد انابيب نقلها إلى كل من الساحل الفلسطيني والسوري واللبناني على البحر المتوسط، فأي غدر اشد خسةً من ذلك يمكن أن يحدث بين حلفاء متعاقدين بمواثيق وعهود، وليس الامر مجرد صراع بين الكلاب الجائعة كما يصفه بعض المعلقين احيانا.. فكلهم متخمون ويخدمون مصالح الشركات الكبرى كائنة ما كانت جنسيتها في هذا الجانب او ذاك في سعيها للحصول على ثروة النفط او على الأصح نهبها من شعوبها.
 
هذا وقد جرى مؤخرا بالفعل اعادة فتح ملف دانييل دينيت الجاسوس الامريكي الأبرز في الشرق الأوسط في تلك الحقبة من الزمان وأُعيد له الاعتبار وجرى تكريم ذكراه في مقبرة الأبطال على راس ضباط المخابرات الامريكيين الذين خدموا مصالح الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، وهي في الواقع مصالح شركات البترول الامريكية وعلى رأسها شركة الارامكو (ستاندرد اويل /سوكوني فاكوم) وكان يرئس مجلس ادارتها المليونير روكفلر الذي حضر آنذاك شخصيا الى المنطقة لكي يتولى توجيه نشاط الاستخبارات الاميركية في مد انابيب النفط من السعودية (التابلاين).
 
صفحات الكتاب التي بلغت ٣٤٨ غطت ايضا وبشكل ضروري ووثيق الصلة بتاريخ بعض قضايانا العربية عبر المائة عام المنصرمة، وكشفت دور أميركا الاستعماري فيها والمختفي وراء ستار، وكم كان يبدو للكثيرين منا تبشيريا بريئاً، مثل إنشاء المدارس والكليات والكنائس والمستشفيات في فلسطين وسوريا ولبنان، ثم تبيّن مع الوقت ان ابرزها وأدهاها وأنجحها في خدمة ذلك الدور هي الجامعة الاميركية في بيروت التي عملت بدايةً ولسنوات عديدة في القرن التاسع عشر باسم الكلية البروتستانتية السورية، وهي حتى الآن ما تزال قوية متنفذة لا تتاثر سمعتها ومصداقيتها بما كشفه الكتاب عن قيام الجاسوس الامريكي دينيت بالتدريس فيها قبل مصرعه، وغير ذلك من النشاطات التي كانت تخدم السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، واخيراً لا آخراً فضحه لمحاولة الاستخبارات البريطانية إختراقها بإدخال اساتذة بريطانيين للتدريس فيها كما فعلت في الكلية الفرنسية بحلب !
 
أذكّر باننا من خلال قضية فلسطين بدأنا نتعرف على التسلل الأمريكي المبكر الى منطقتنا التي كانت حكراً على بريطانيا وفرنسا، وقد كتبت مثلا قبل سنوات في ((الرأي)) عن إرسال الرئيس وودرو ولسون عام ١٩١٧ مبعوثه الشخصي المليونير هنري مورغنثو عضو الكونغرس السابق الى بريطانيا ليتدخل بشكل حاسم في وضع الصيغة النهائية لوعد بلفور وخطوط تقسيم المنطقة العربية حسب اتفاقية سايكس بيكو، ومن ثم رعاية نفس هذا الرئيس لدور لجنة كينغز/ كرين (وهما من خارج الحكومة، احدهما يعمل في التعليم والثاني من كبار رجال الأعمال في الولايات المتحدة ) للتحقيق في النزاع العربي اليهودي في فلسطين! وها نحن اليوم بعد قرن من الزمن نجد آخر رئيس للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب يستحوذ على مجمل هذا النزاع مستخدما قاعدته العسكرية الكبرى إسرائيل في الحرب على غزة ولتحقيق الأطماع نفسها !
 
وتتحدث المؤلفة في اكثر من فصل من فصول الكتاب عن سوريا وهي التي تعرفها عن قرب بفضل إقامتها العائلية الطويلة في لبنان وعملها فيها كصحفية في الديلي ستار، وتذكر كيف كانت اميركا تتدخل في شؤون المنطقة السياسية والاقتصادية وتشارك في التآمر على حكوماتها خصوصا إذا أتت عن طريق ولو شبه ديمقراطي فتدبر الانقلابات العسكرية، وتؤيد عام ١٩٦٧ احتلال اسرائيل لهضبة الجولان التي يقول عنها فصل كامل في الكتاب إن في باطنها بحيرة من النفط تعرف الشركات الاميركية ضخامتها حق المعرفة،هذا كله عدا عن الثروة الغازية الهائلة لسوريا في مياه البحر المتوسط!
 
وبعد.. فحتى لا يظنّ القارئ اننا نتهم اميركا والشركات الكبرى وحدها بالتعدي والتسلط وعلى منطقتنا دون باقي اصقاع العالم، فاننا نتابع امثلة دامغة كثيرة غيرها كالتحرش اليومي المتزايد من قبل الرئيس ترامب بفنزويلا ورئيسها مادورو من اجل قلب حكومته بحجج واهية مثيرة للسخرية، والهدف غير المعلن هو الطمع في ثاني اضخم مخزون نفطي مكتشف الى الان !