الغد
مع اقتراب العام من نهايته، بدا العالم وهو يلملم أوراقه مثقلًا بأخبار لا تُشبه القصص التي نحب سماعها؛ حروب متواصلة، درجات حرارة التهبت في الصيف بطريقة غير مسبوقة، وأسعار ترتفع بلا استئذان كأنها تختبر قدرة البشر على الاحتمال. كان 2025 عامًا دخلناه ونحن نحبس أنفاسنا، نتابع الشاشات بذهول مصحوب بالغضب، كأن البشرية تمشي على حافة سؤال كبير: هل ما نعيشه بداية وعي جديد يتشكل للإنسانية؟
وعندما انعقدت هذا العام قمة العشرين في جوهانسبرغ، لأول مرة على أرض أفريقية، في لحظة كان العالم فيها مرتبكًا سياسيا ومناخيا معًا. سنوات طويلة مرّت والتحذيرات من التغير المناخي تُؤجَّل أو تُخفف حدّتها، لكن صيف 2025 جاء فاضحًا وقاسيًا؛ موجات حر خانقة، نقص في مصادر الطاقة، وحلول ترقيعية لا تمسّ جوهر الأزمة.
عند هذا الحد، لم يعد ممكنًا النظر إلى التحديات من زاوية وطنية أو جغرافية ضيقة، بل بات لزامًا أن نراها بمنظار أوسع هو منظار البشرية كوحدة واحدة. فخلايا الجسد الإنساني، على اختلاف أشكالها ووظائفها، متّحدة في هدف يسمو فوق مصالح الأعضاء المنفردة. والتغير المناخي لا يعترف بالحدود، والتقدم الحقيقي لم يعد رقمًا اقتصاديا مجرّدا، بل مسؤولية أخلاقية تقاس بمدى قدرتنا على أن ننجو معًا، لا فرادى.
ومن غزة إلى أوكرانيا ثم إلى السودان، بدا العام كأنه دفتر مفتوح للوجع الإنساني. نزوح، دمار، فقدان أمن، وخوف ينتقل بين الشعوب كما تنتقل العدوى. لم تعد الحروب مجرد نشرات أخبار عابرة، بل صدى يومي في الوعي الجمعي. ولم تعد نهايات الصراعات شأنًا سياسيًا، بل اختبارا أخلاقيا عميقا لقدرتنا على إعادة الإنسان إلى قلب القرار. وبين كل هذا الضجيج، ظلّت حرب السودان جرحًا أقل حضورًا على الشاشات، وأكثر عمقًا في الواقع؛ ملايين النازحين، انهيار للخدمات، وتمزق في نسيج الحياة.
ولم يكن الأردن بمنأى عن هذه الارتدادات. الأزمات الإقليمية تركت آثارها على الاقتصاد والخدمات، وتتالت الضغوط، لا سيما مع تداعيات إيقاف برامج الدعم الأميركي USAID التي أثرت مباشرة على المنظمات غير الحكومية ومشاريع التنمية الصغيرة في جميع المحافظات. هنا ظهرت حقيقة لا يمكن تجاهلها، فالمشكلة ليست فقط في نقص التمويل، بل في هشاشة نماذج الاستدامة. وكالعادة فان قضايا النوع الاجتماعي ستوضع في أسفل سلّم الأولويات، لتكون أول ما يُضحّى به عند الأزمات، فيما جعل الاعتماد المزمن على المنح الخارجية دون تطوير أدوات تمويل محلية المجتمع المدني أكثر عرضة للاهتزاز مع كل أزمة مساعدات مالية.
وفي قلب هذه الصورة الثقيلة، جاءت زيارات جلالة الملك عبدالله الثاني المتكررة للقطاعات الاقتصادية هذا العام كرسائل طمأنة بأن الصمود ما يزال خيارًا، وأن فتح نوافذ استثمار جديدة، داخليًا وخارجيًا، هو أحد مفاتيح العبور إلى أعوام قادمة أكثر ثباتًا، مهما بدا الطريق ضيقا,
وعلى مستوى آخر، شهدت منطقتنا هذا العام ملتقيات إعلامية لا حصر لها، واختُتم العام بمؤتمر “بريدج” في أبوظبي، حيث يلتقي صناع الإعلام العالميون ليؤكدوا أن الإعلام في زمن الانقسامات لم يعد مجرد ناقل خبر، بل صانع أثر. اختيار الصورة، صياغة العنوان أمام مدّ الذكاء الاصطناعي، وانتقاء المفردة، لم تعد تفاصيل تقنية، بل قرارات أخلاقية تصنع الفارق بين خطاب يُرمّم، وآخر يُعمّق الشرخ. وهنا تتضاعف مسؤولية الإعلامي بوصفه شريكًا في تشكيل الوعي وبناء الجسور، لا مجرد شاهد على الانقسام.
وفي تفاصيل يومه، يشعر المواطن الأردني بأنه يسير ما بين وعيٌ يتشكّل ببطء وعمق، وإرهاقٌ يتراكم من طول الاستنزاف. فالتحدي الذي يواجهنا اليوم هو أخلاقي وروحي في جوهره. نحن ، كبشر ،كجسدٍ واحد، مليء بالخلايا المختلفة شكلًا ووظيفة، لكنها متحدة في هدف واحد. فإذا اشتكى عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى. وحين تسود الأنانية، لا تُشفى الجراح، بل تتعمّق، ويصبح الانقسام بداية بترٍ صامت.
ومع ذلك، ورغم كل هذا الثقل الذي حمله 2025، يبقى في القلب متّسع دافئ للأمل. فالأعوام، مثل البشر، تتعب لكنها تتجدد لمداومة العيش. فلنفتح باب 2026 بعيون أكثر اتساعًا، وقلوب أخفّ، مستبشرين بفرص واعدة، وبأمنيات تستحق أن تُمنح فرصة أخرى للحياة.
مرحبًا بعامٍ جديد.. لعلّه يكون أرحم، وأقرب لأحلامنا.