الدستور
هناك خوفٌ حقيقي في وسائل الإعلام الأميركية من انتقاد إسرائيل أو سياساتها، والسبب هو القوة السياسية الهائلة للوبي المؤيد لها- جيمي كارتر.
أهمُّ قصةٍ إخباريّة هي تلك التي تتعمّد وسائلُ الإعلام الغربية الكبرى عدم كشفها، ولا سيّما عندما تكون متعلّقةً بالكيان الصهيوني. تتوالى تسريباتُ وثائقِ فضيحةِ جيفري إبستين، رجل الأعمال الأمريكي وسمسار العلاقات النافذ، المتَّهَم بإدارة شبكةٍ واسعة للاتجار بالفتيات القاصرات واستغلالهن جنسيًا، والتي استقطَب بواسطتها سياسيين ورجالَ أعمالٍ وشخصياتٍ بارزة لتسجيلهم وابتزازهم. وقد كشفت تقارير عديدة أنّه كان يعمل لصالح الموساد الإسرائيلي، قبل أن يُعثَر عليه ميتًا داخل زنزانته عام 2019 في ظروفٍ غامضة أثارت موجةً عارمة من الشكوك حول حقيقة وفاتِه. ورغم خطورة هذه المعلومات وأبعادها الهائلة، فإنّ وسائل الإعلام الغربية ما تزال تتجاهلها عمدًا، وكأنّها لم تُكشف قط.
وقد نشر موقع Drop Site News، وهي منصّة صحفية استقصائية متخصّصة في كشف الوثائق والمعلومات التي تتعمّد وسائلُ الإعلام التقليدية إخفاءها، أربعةَ تقارير تُثبِت تورّطَ إبستين مع جهاز الموساد الصهيوني، وجاءت عناوينها على النحو الآتي:
جيفري إبستين ساعد في التوسّط لاتفاقٍ أمنيٍّ إسرائيلي مع منغوليا.
جيفري إبستين والموساد: كيف ساعد تاجر البشر «إسرائيل» في بناء قناة اتصال سرّية مع روسيا خلال الحرب في سوريا.
جيفري إبستين ساعد «إسرائيل» في بيع أجهزة مراقبة لدولة ساحل العاج.
جاسوسٌ إسرائيلي مكث لأسابيع عدّة مع جيفري إبستين في مانهاتن.
وفي أحدث ما كُتِب ضمن هذه التحقيقات، تساءل الصحفيان ريان غريم ومرتضى حسين:
«لماذا فقدت بقيةُ وسائلِ الإعلام ـ التي لم تُبدِ سابقًا أيّ تردّد في تغطية قصة جيفري إبستين ـ قدرتَها فجأة على الاستمرار في التغطية؟ رغم وجود أكوامٍ من الوثائق المهمّة المتاحة علنًا للجمهور!»
وتابعَا قائلَين: «من منظور المنافسة الإعلاميّة، يسعدُنا أن يبقى الإعلامُ الآخر مكتوفَ الأيدي، ونفخرُ بأن ننشر سلسلةً من القصص التي تمنح الجمهور لمحةً نادرة عن عالمٍ غالبًا ما يبقى بعيدًا عن أعينهم. لكنّ هذا الملفّ تحديدًا يستحقّ اهتمامًا وطنيًا جماعيًا. نأمل أن ينضمَّ بعضُكم إلى هذه التغطية».
ومن يتابع تغطية الإعلام الغربي لقضية إبستين يلحظ أنّها تُستغلّ لتصفية الحسابات السياسية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ فقد سمح الرئيس بالإفراج عن الوثائق التي تُدين عدداً من كبار سياسيّ الحزب الديمقراطي، فيما يروّج الديمقراطيون لوجود علاقة شخصية تربط الرئيس بإبستين. وتشير تقارير عدّة إلى أنّ أحد أسباب استمرار فترة الإغلاق الحكومي الطويل في الولايات المتحدة كان مرتبطًا بملفِّ وثائق إبستين، إذ خاض الجمهوريون والديمقراطيون مفاوضات شاقّة وطويلة حول طبيعة الوثائق التي سيُسمح بنشرها أخيرًا، وما إن توصّل الطرفان إلى اتفاق، حتى انتهى الإغلاق فورًا، وبعدها صوت البرلمان على سن قانون شفافية وثائق ابستين للكشف عن ملفات القضية.
تخيّل معي جاسوسًا يتغلغل في قلب السياسة الأمريكية، يمتلك نفوذًا واسعًا بين كبار الساسة، ويتجسّس لصالح الكيان الصهيوني، ويبتزّ المسؤولين عبر تصويرهم في أوضاعٍ مُخِلّة لخدمة مصالح هذا الكيان. ومع ذلك، تُغفل وسائل الإعلام الغربية هذه القصة الأخطر، وتختار بدلًا من ذلك التركيز على بعض الأسماء الفردية المتورّطة، في انتقائيةٍ فاضحة ومماحكاتٍ سياسية مكشوفة.
أمّا لماذا يفعل الإعلام ذلك، فلأسبابٍ عديدة؛ فوسائل الإعلام الغربية ليست مؤسّساتٍ حياديّة أو منفصلة عن مراكز النفوذ، بل هي جزءٌ عضوي من المجمّع الصناعي العسكري، وبالتالي فهي تعمل على خدمة أهدافه. وهي لا تسعى إلى نقل الحقيقة بقدر ما تهدف إلى تلقين الجماهير والتلاعب بوعيهم، لدفعهم إلى منح القبول والدعم لحروبهم وسياساتهم.
إنّ جرائمَ هذه المنظومة مستمرةٌ بلا انقطاع، ينتقل إرثُها من حزبٍ إلى آخر، ومن رئيسٍ إلى رئيس: حروبُ إبادة، ونهبٌ عالمي، ورأسماليةٌ مدمّرة، وفوارقُ طبقيةٌ حادّة، وتجسّسٌ دائم، وأكاذيبُ مُمنهجة. وكلُّ ذلك يجري في خدمة طبقةٍ ضيّقة من الأثرياء تتحكّم بمصالح الشعوب ومصائرها، وتعيد تشكيل العالم بما يناسب نفوذها وجشعها.
كما لا ينبغي أن ننسى أنّ معظم وسائل الإعلام الكبرى مملوكة أو خاضعة لنفوذ الدوائر الداعمة للكيان الصهيوني، ومن ثمّ فهي لن تسمح بنشر أيّ مواد تُسيء إليه أو تكشف حجم تغلغله. وإذا أدرك الرأيُ العام الأمريكي حقيقةَ التأثير الهائل الذي يمارسه هذا الكيان داخل الولايات المتحدة، فسيؤدي ذلك إلى تغييراتٍ واسعة وصادمة في المشهد السياسي والإعلامي معًا. ولهذا تركّز وسائلُ الإعلام على علاقة إبستين ببعض السياسيين والمشاهير، بينما تتجاهلُ الجوهر الأخطر: أنّه كان جاسوسًا صهيونيًا يعمل لخدمة الكيان.