كل هاتف ساحة معركة.. كيف زرعت "إسرائيل" أدوات تجسس في جيوبنا؟
جو 24 :
"هل لديكم هواتف محمولة؟ أنتم تحملون قطعةً من إسرائيل بين أيديكم". هكذا صرّح رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في الـ16 من أيلول/سبتمبر الماضي، أمام وفد أميركي برئاسة وزير الخارجية، ماركو روبيو. لم تكن الجملة مجرد مزحة، بل رسالةً سياسيةً مفادها أنّ "إسرائيل" لا تبيع الأسلحة فحسب، فتقنياتها موجودة في كل شيء، ومن يتحالف معها يستفد من خبراتها: "إسرائيل" في كل الهواتف.. إنّها في جيبك وفي يدك، وفي حياتك اليومية.
في تسعينيات القرن الماضي، حين كان الكوكب يتعرّف على الإنترنت، ظهرت شركة إسرائيلية صغيرة اسمها "ميرابيلس" (Mirabilis)، وقدّمت إلى العالم برنامج "ICQ" الشهير. كل أبناء ذلك الجيل يذكرون تطبيق الدردشة هذا، الذي يُعدُّ والد برامج الدردشة الحديثة. وكان التطبيق الإشارة الأولى إلى أن "تل أبيب" ستتحوّل إلى لاعب رئيسي في الثورة الرقمية المقبلة.
منذ تلك اللحظة، بدأت الشركات الإسرائيلية تغزو الأسواق. بخطوات متسارعة، دخلت عالم البرمجيات الأمنية، التقنيات، تحليل البيانات، ثم لاحقًا الكاميرات والشرائح. "إسرائيل" تروّج لنفسها في العالم على أنها "أمّة الستارت أب"، وأنها "الدولة" الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك "سيلكون فالي" خاصاً بها.
"إسرائيل" خلف كل صورة
التركيز الإسرائيلي على تقنيات وتكنولوجيا مرتبطة بتحسين الصورة والكاميرات وشرائح الذاكرة وتقنيات التعرّف إلى الوجوه سببه حاجتها الأمنية إليها. وعندما يطرح أصحاب الشركات الإسرائيلية، الذين خدم أغلبهم في وحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية (وحدة متخصصة بالتجسس التقني)، منتجاً ما، فهذا يعني أن الجهات الأمنية لم تعد بحاجة إليه، ويمكن تحويله إلى الاستخدام المدني.
منذ أن استحوذت شركة "أبل" على شركة "LinX Imaging" عام 2015، صار من المعتاد أن نجد "إسرائيل" خلف كل صورة يلتقطها حَمَلة هذا الهاتف. هذه الشركة طوّرت تقنيات الكاميرات متعددة العدسات، التي حسّنت التصوير في الإضاءة المنخفضة وأدخلت العمق إلى الصور. بعدها، جاءت "Corephotonics" بقدرات التكبير البصري التي تبنّتها "سامسونغ" و"أوبو". كما وفّرت "PrimeSense" لهواتف "أبل" الأساس لتقنية "Face ID" عبر مستشعرات العمق. التقنية التي تمنحك شعوراً بـ"الأمان" كلما تمكنت من فتح هاتفك بوجهك، هي وليدة عمل إينون براخا وأفياد مايزل، اللذين باعا تقنية التعرّف إلى الوجوه لجهاز "Kinect" لـ"مايكروسوفت"، قبل أن تستحوذ عليها "أبل" في 2013، ليتحوّل الوجه إلى كلمة مرور رقمية.
بالتأكيد، ليست الهواتف كاميرات فحسب، بل ذاكرة ومعالجات. "أنوبيت" الإسرائيلية طوّرت متحكمات ذاكرة حسّنت أداء التخزين، فاستحوذت عليها "أبل" ودمجتها في "آيفون". حتى "إنتل"، العملاق الأميركي، تعتمد على مراكزها الموجودة في "إسرائيل" لتطوير بعض تقنيات المودم والاتصال، بما فيها شرائح الجيل الخامس.
"ويز" و"فايبر" و"موفيت": الغزو البرمجي
بعيداً عن الهاتف، صنعت شركات إسرائيلية تطبيقات مزروعة في أغلب الهواتف. قائمة هذه التطبيقات طويلة، منها "Waze"، الذي غيّر مفهوم الملاحة قبل أن تشتريه "غوغل"، "Viber"، الذي حمل رسائل الملايين قبل أن تستحوذ عليه "راكوتن"، "Moovit"، الذي استخدمه ملايين الركاب للتخطيط لرحلاتهم، و"FaceTune" الذي غزا هواتف جيل "السيلفي". كلها بدأت كمشاريع إسرائيلية، وأُدمجت لاحقاً في شركات عالمية.
حتى "فيسبوك" اعتمدت على شركة "Onavo" الإسرائيلية، من أجل مراقبة استهلاك البيانات. بمعنى آخر، كل مرة تفتح تطبيقاً شهيراً، هناك احتمال كبير أن جزءاً منه صُمِّم في "تل أبيب".
التكنولوجيا في خدمة السياسة
مراكز الأبحاث لا تتوقف عن تسويق "إسرائيل" بوصفها "أمّة الستارت أب". التقارير تشير إلى أن قطاع التكنولوجيا الفائقة (هاي تك) يساهم بأكثر من 15% من الناتج المحلي، ويشكّل شرياناً حيوياً للاقتصاد الإسرائيلي. الشركات الناشئة تُباع بمليارات الدولارات لشركات أميركية ويابانية، وهذا يُترجم إلى نفوذ سياسي يفسّر جملة نتنياهو؛ هو لا يتحدث عن تقنية فقط، بل عن تحالف استراتيجي. كلما اشترت "أبل" أو "غوغل" شركةً من "تل أبيب"، ترسّخ ارتباط وادي السيليكون الأميركي بـ"إسرائيل".
لكن الوجه الآخر الأكثر قتامةً للتكنولوجيا الإسرائيلية هو برامج التجسس. "NSO" أطلقت برنامج "بيغاسوس"، فجعلت أي هاتف ساحةً مفتوحةً للتجسس؛ من مراقبة الرسائل، الصور، المكالمات، وإلى موقع حامل الهاتف، كل شيء تحت المراقبة. تحقيقات دولية أثبتت أن "بيغاسوس" استُخدم ضد رؤساء دول وصحافيين ومعارضين سياسيين.
"Candiru" أيضاً، ببرمجيتها "DevilsTongue"، اخترقت أجهزة "ويندوز" و"ماك" و"آيفون".
"Paragon Solutions" قدّمت أداةً تتجاوز تشفير "سيغنال" و"تلغرام". أما "Cellebrite"، فقدّمت أدوات استخراج بيانات الهواتف للشرطة وأجهزة الاستخبارات، استخدمت في قضايا جنائية وأحياناً ضد ناشطين سياسيين، أشهرها عندما طلبت "الأف بي آي" من شركة "Cellebrite"، فتح هاتف مجرم بعد أن رفضت شركة "أبل" فعل ذلك.
فضيحة "IronSource" و"سامسونغ"
في عام 2024، انفجرت فضيحة جديدة: هواتف "سامسونغ" في الشرق الأوسط جاءت محمّلةً بتطبيق "AppCloud/Aura" من شركة "IronSource" الإسرائيلية. التطبيق جمع بيانات شخصية، من الموقع الجغرافي إلى عناوين "IP". حتى لو جرّبت حذفه، فإنّه يعود ويثبّت نفسه بعد الحذف. لم يكن برنامج تجسس بالمعنى التقليدي، لكنه مثال صارخ على كيف يمكن لشركة إسرائيلية أن تدخل إلى جيوب الملايين عبر شراكة تجارية مع عملاق عالمي، والمسألة لا تنفصل عن الاستراتيجية الإسرائيلية الكبرى. "تل أبيب" تنظر إلى السيطرة على الفضاء السيبراني على أنها جزء من بقائها. من هنا، نفهم أن الهواتف الذكية ليست مجرد سوق، بل ميدان حرب غير مرئية.
المفارقة أن التقنية نفسها يمكن أن تكون سلاحاً أو درعاً. الكود البرمجي الذي يحمي بياناتك يمكن أن يُستخدم لاختراقها. الذكاء الاصطناعي الذي يكشف التطبيقات الخبيثة قد يُستخدم لتطوير تطبيقات تجسس أكثر ذكاءً. هذه المعضلة تجعل كل هاتف ساحة معركة.
الدرس واضح: "إسرائيل" زرعت نفسها في الهواتف منذ التسعينيات، وها هي اليوم تحصد نفوذاً غير مسبوق. إنها في كل صورة تلتقطها، وفي كل رسالة ترسلها. ما يعرفه الكثيرون أن هذه ليست قصة تقنية فقط، بل سياسية وأمنية بامتياز. نتنياهو لم يبالغ حين قال إن "قطعةً من إسرائيل" في هاتفك. هو يعرف أنه يمكن لهذه القطعة أن تكون عيناً خفيةً تراقبك، بقدر ما هي عدسة تلتقط صورك.
المعادلة واضحة: التكنولوجيا الإسرائيلية فتحت الباب واسعاً للتجسس والسيطرة، ونحن أكثر من عرفنا ذلك بشكل واضح في العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان.
(الميادين)