عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Oct-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (12)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

كان ما يجمع بين كل «الخيارات الواقعية» التي عُرضت على الفلسطينيين، تاريخيًا، هو تضييق الأفق الفلسطيني باطراد تحت ضغط القوة القهرية. في كل مرحلة أعيد تعريف «الواقع» بدفعه إلى مستوى أدنى: من السيادة إلى الحكم الذاتي؛ ومن الحكم الذاتي إلى الوصاية؛ ومن الوصاية إلى مجرد إدارة إنسانية لحياة سكان بائسين تحت الاحتلال. وفي التجلي الأخير للخيار الواقعي، خطة ترامب لغزة، حتى «السلطة الفلسطينية» نفسها -التي رُوِّج لها كصانعة الدولة القادمةــ تم تهميشها في النقاش الدائر حول غزة، واستُبعدت حتى من إدارة ملف إعادة الإعمار. مرة أخرى، ليس أمام كل الفلسطينيين «خيار»، وإنما إلزام قسري بقبول البديل الواحد الذي تفرضه القوة؛ نفس التضليل المخبأ في لغة «الخيار»: لا اختيار بين بدائل، بل إجبار على توقيع نص معدّ سلفًا.
 
 
المشكلة في هذا العرض، الذي يقدمه الأفراد والكيانات لمختلف المقاصد –بما في ذلك كاتب هذه السطور- هو أنه وصفي وليس تحليليًا. وبكونه كذلك، فإنه يعتّم على المقدمات ويضيء على النتائج، وبذلك يبرئ –أو على الأقل يعطل فعل المساءلة التي يمكن أن تفضي إلى إدانة- للقوى والآليات التي تجعل من خيار الفلسطينيين في كل مرحة «الخيار الوحيد الممكن». إن ما تفعله المقاربة التوصيفية، هي إظهار الواقع في لحظة ما وكأنه نتيجة حتمية تاريخية، أو تراكم طبيعي لضرورة سياسية. وهذا يضع اللوم كله على كاهل الفلسطيني، باعتبار أن قراره عدم اتخاذه «الخيار الواقعي الممكن» هو المشكلة، والعقبة أمام «السيرورة الطبيعية» للأشياء كما ينبغي أن تكون، بتعرف الخارجيين. (كانت هذه هي المنهجية هي التي وظفها بنيامين نتنياهو وجو بايدن -والآن دونالد ترامب- بعرض حدث 7 أكتوبر بوصفه نقطة فريدة في التاريخ، والتي ترتب عليها ما بعدها من دون اعتبار لما قبلها).
أتصور أن من المهم جدًا، لضرورات أخلاقية–والأهم لضرورات عملية- في مسار النضال الفلسطيني، الإصرار على سردية تحمِّل المسؤولية عن كل ما حدث ويحدث لمن يجب أن يتحملها. وأفترض أن ذلك يجب أن يبدأ بتكرار لحوح لا يكل لسرد السياق؛ للقصة كلها. وإذا كان التعلُّم من العدو مشروعًا، فلننظر كيف زيفوا سياقًا وكيف يكررونه بلا خجل. ولنلاحظ بشكل خاص تصريح ترامب عن  إنهاء «خطة غزة» صراعًا عمره ثلاثة آلاف عام وجلب السلام الدائم والمنصف لكل المنطقة، والعالم، كما يقول. ويكرر هذا السياق المصطنع والممطوط زمنيًا، رواية نتنياهو عن أن المسلمين –في هذه الحالة الفلسطينيين- غزو واحتلوا وطن اليهود التاريخي، وأن ما فعلته الصهيونية كان تحرير هذا الوطن. بذلك، يحمّل نتنياهو وتياره، وترامب وحاشيته، المسؤولية للفلسطينيين عن التسبب في الصراع، ويكفّرون مقاومتهم، ويبررون اضطهادهم –أو حتى تطهيرهم وإبادتهم- باعتبارهم المعتدين.
من المفهوم أن الفلسطينيين حُرموا، وما يزالون، من الحق في السرد، وأنهم يواجهون عددًا لا نهاية له من القوى التي تجهد في إسكاتهم –أو على الأقل مراقبة سردهم وفلترته- لأن هذا السرد سيغير خريطة المسؤوليات ويقيم دعاوى ويقترح محاكمات. لكنّ الفلسطينيين ملزمون –وجوديًا- بالاحتيال على كل مساحة ممكنة للنطق بسرديتهم. وفي هذه المرحلة الحرجة، مثل كل اللحظات الفلسطينية- عليهم الإفلات من توصيف «الممكن الوحيد» إلى تفسيره بوضعه في سياق السردية حيث أمكن. من الضروري الآن –ودائمًا- الإضاءة على ما تمكن تسميته «الحتمية المصنّعة» في الحالة الفلسطينية -مثل كل الحتميات التي تُفرض على المهمشين في هذا العالم غير العادل.
ينبغي لمفهوم «الحتمية المصنَّعة» –كما أتصوره- أن يصف العملية التي صيغت من خلالها النتائج السياسية للحظات الفلسطينية المفصلية –بعيدًا عن كونها النتيجة الطبيعية لضرورةٍ تاريخيةٍ أو لتسويةٍ عقلانية- ولناحية إظهار كيف تمت هندستها منهجيًا وقصديًا لكي تبدو كذلك. ولا يصف مفهوم «الحتمية المصنعة» هنا أيديولوجيا، بمعنى موقف نظري يروج له خطاب سياسي وإعلامي لتعمية الواقع؛ إنه يصف تكنولوجيا سياسية -بأبعاد عملية. وهي تكنولوجيا مصممة لتنسيق أدوات القوة، والقانون، والخطاب، والدبلوماسية، لتجعل بعض الوقائع تبدو حتميةً لا مفر منها، بينما تجعل «وقائع» أخرى غير قابلة حتى لمجرد التفكير فيها أو تصوّرها. وفي الحالة الفلسطينية، ما تزال هذه العملية جارية على مدى أكثر من قرنٍ، حيث حولت أعمال السلب والاقتلاع بالتدريج إلى «حقائق» سياسية مقبولة، وكيّفت الواقع الاستعماري المستمر -الذي ينبغي أن يكون مدانًا وغير طبيعي- إلى ما ظل النظام العالمي يطبّعه دائمًا باعتباره «الوضع القائم».
إحدى الغايات الضرورية لفهم كيفية تصنيع الحتميات وتحديد المسؤولية عن تصنيعها هي تحرير الخيال الفلسطيني الذي تقام حوله كل أنواع الأسلاك الشائكة من «الواقعية» و»الحتمية» و»الإمكانية». حتى الصهيونية أقامت مشروعها الاستعماري العدواني على التخيل: توسيع السياق إلى ثلاثة آلاف عام، وحلم «إسرائيل الكبرى»، و»الضحية الأبدية»، مثلًا. والتخيل، بالنسبة للفلسطينيين، أبعد ما يكون عن الترف. إنه الشرط الأساسي والضروري للبقاء والمقاومة. عندما تعيش تحت نظامٍ يسعى إلى محو تاريخك، وتمزيق جغرافيتك، وإجهاد قدرتك على رعاية الأمل، يصبح فعل التخيّل وسيلتك لتحدي شروط المحو ذاتها.
الخيال هو الذي يمكّن الفلسطيني من النظر أبعد من حدود الخراب المفروض –إلى مشهد مكوناته العدالة والعودة والحرية. وهو ضروري لاستعادة الوكالة وتحريك الأطراف حيث سعت القوة إلى فرض الشلل، وتحويل اليأس إلى مادة لصناعة الصمود. الخيال للفلسطينيتين هو فعلٌ سياسي؛ لأنه يتيح لهم القدرة على إعادة تعريف الممكن حتى تكون لديهم خريطة عمل، ويفكك المنطق الاستعماري الذي يجعل من الهيمنة المكافئ الطبيعي للقدر الإلهي. ويعني أن يواصل الفلسطينيون التخيّل أن يواصلوا الوجود كشعب عندما يرفضون المصادقة على أن «واقع» الاستلاب هو الممكن الوحيد.