الذكاء الاصطناعي والقياس الذكي بإدارة المياه: من التحدي إلى الحل لمواجهة الندرة المائية
الغد-إيمان الفارس
لن يبنى مستقبل المياه في الأردن وفي دول المنطقة عموما على الصدفة أو المعالجات المؤقتة، بل سيصاغ على يد خوارزميات قادرة على التنبؤ وأجهزة استشعار تراقب، وأطر تشريعية تحتضن الابتكار، وأهم من كل ذلك؛ مواطن واعٍ مدرك لقيمة كل قطرة.
فالذكاء الاصطناعي والقياس الذكي، وفق هذا التحليل، ليسا خيارا تقنيا، بل حتمية وطنية في ظل الندرة، ووسيلة لتحسين التخطيط، ودعم اتخاذ القرار، وتعزيز مرونة النظام المائي الأردني في وجه التقلبات المناخية المتزايدة.
وفي هذا السياق، أكد خبراء في قطاع المياه، في تصريحات لـ"الغد"، أهمية الاستثمار في هذه التقنيات، مشيرين إلى أنه لا يعني فقط تحسين الإدارة، بل يمثل انتقالا استراتيجيا نحو "حماية مورد الحياة الأول"، وهو المياه.
هندسة المعرفة المائية
وكشفت مؤسسة أبحاث المياه (WRF)، في تقريرها العالمي الصادر مؤخرا بعنوان "اتجاهات القياس الذكي العالمية"، والذي حصلت "الغد" على نسخة منه، عن نتائج استقصاء أُجري في العام 2024، وشمل 55 مرفقًا مائيًا في 22 دولة، حول دوافع ومعوقات التحول الرقمي في قطاع المياه، موضحة أن المحفزات الرئيسة لاعتماد هذه التقنيات، تتمثل بتحسين الكفاءة التشغيلية، والحد من الفاقد، وتحقيق الشفافية في الفوترة.
وفي عالم تتزايد فيه التحديات البيئية، وتتعقد أزماته المناخية، لم تعد إدارة المياه ممكنة بالأساليب التقليدية، بخاصة في دول مثل الأردن التي تصنف ضمن أفقر دول العالم مائيا.
وفي الإطار ذاته، تبرز تقنيات القياس الذكي والذكاء الاصطناعي، ليس كمجرد ترف تقني، بل كأدوات استراتيجية لإعادة صياغة أمن المياه، ضمن ما بات يعرف بـ"هندسة المعرفة المائية".
تغيير طريقة إدارة الموارد المائية
من جهتها، أكدت الخبيرة الأردنية في دبلوماسية المياه ميسون الزعبي، أن الأردن أمام منعطف استراتيجي، يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة إدارة موارده المائية، مبينة "أن ندرة المياه في الأردن، والنمو السكاني، والتغير المناخي، كلها عوامل تضغط على موارد المياه، وتفرض تبني تقنيات القياس الذكي كخيار لا مفر منه".
وأضافت الزعبي، أن إدماج تقنيات مثل إنترنت الأشياء، وأجهزة الاستشعار، وتحليل البيانات الضخمة، يُحدث نقلة نوعية في كفاءة استخدام المياه في الزراعة، الصناعة، والمنازل، كما يحد من الهدر ويخفض تكاليف الطاقة ويعزز الاستدامة.
ورأت الزعبي أن هذه التقنيات، لا تقتصر على الجانب الفني، بل تمثل تحولًا ثقافيًا في طريقة التفكير حول المياه، مشددة على أهمية إشراك المجتمع بالحل، مضيفة "أنه لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة أو مواجهة تحديات المياه، من دون تمكين الإنسان وتعزيز مشاركته الفاعلة، وتوفير الأطر القانونية لحماية البيانات، وتكريس الشفافية والعدالة".
وبينت الخبيرة في "دبلوماسية المياه"، أن أنظمة إدارة المياه الذكية تجمع البيانات من أجهزة استشعار موزعة في مناطق مختلفة، ما يتيح تتبعًا دقيقًا لاستهلاك المياه، وكشف التسربات، والتنبؤ بالطلب المستقبلي.
مراعاة تقلبات المناخ
وتابعت، أن هذه الأنظمة تستخدم خوارزميات متقدمة، تحلل البيانات المجمعة للتنبؤ باحتياجات المياه وتحسين استخدامها، لافتة لمساهمتها بتمكين الحكومات وشركات المرافق والمزارعين، بوضع استراتيجيات مستدامة لإدارة موارد المياه، مع مراعاة تقلبات المناخ والضغط المستمر على الموارد.
وإلى جانب ذلك، يتجاوز مفهوم التقنيات الذكية، التطبيقات التقنية، ليعكس أيضًا تحولًا في العقلية والمواقف تجاه الاستدامة. إذ يتطلب تطبيقها التعاون بين أصحاب المصلحة، بما في ذلك الحكومات والشركات والجامعات والمجتمعات المحلية، لتمكين الابتكار وتبادل المعرفة، واستخدامها بإدارة المياه يمثل أكثر من مجرد تحسين الكفاءة؛ إنه استجابة شاملة للضغوط البيئية والاقتصادية المعقدة، وفق الزعبي.
وأوضحت، أن هذا التوجه يتماشى مع الجهود العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ما يجعل التقنيات الذكية أداة أساسية لضمان الأمن المائي في المستقبل، مشيرة لمساهمتها بتحديد التسربات في شبكات المياه، وتوفير معلومات دقيقة عن استهلاك المياه في مختلف قطاعات: الزراعة، الصناعة والمنازل، ما يسهم بترشيد استهلاك المياه وتحسين كفاءتها.
استخدام البيانات بشكل أخلاقي
وتُحسّن العديد من تقنيات القياس الذكي، كفاءة الطاقة في قطاع المياه، ما يقلل من تكاليف التشغيل، ويدعم الاستدامة المالية، وفق الزعبي، التي أضافت أن أنظمة الري الذكية التي تعتمد على قياس رطوبة التربة وتحليل البيانات، توفر للمزارعين معلومات دقيقة عن احتياجات الري، ما يساعد على تقليل استهلاك المياه، وزيادة الإنتاجية، وتحسين جودة المحاصيل.
وبشكل عام، يمكن لتقنيات القياس الذكي أن تلعب دوراً حاسماً بتحقيق الأمن المائي في الأردن عبر تحسين إدارة الموارد المائية، وزيادة كفاءة استخدام المياه، والحد من الهدر، ودعم التنمية المستدامة، بحسبها.
كما دعت لأهمية وضع أطر قانونية، تدعم استخدام الذكاء الاصطناعي بإدارة المياه، مع التركيز على حماية البيانات والخصوصية، توازيا وضرورة وضع سياسات وتشريعات واضحة، لتحديد كيفية جمع البيانات وتخزينها ومشاركتها بين مختلف الجهات، مع ضمان حماية حقوق الأفراد والمجتمعات واستخدام هذه البيانات بشكل أخلاقي.
ولفتت إلى مبادرات حالية وخطط مستقبلية، تركز عليها إدارة قطاع المياه لتحسين كفاءة استهلاك موارد المياه بأساليب عدة، منها تطوير نماذج تنبؤية للاستعداد للمستقبل للتنبؤ بالطلب على المياه في مختلف القطاعات؛ الزراعة، الصناعة والاستخدام المنزلي، مما يساعد صانعي القرار على التخطيط الاستباقي، ووضع استراتيجيات لمعالجة ندرة المياه، وتقييم المخاطر، وتوقع الأزمات المتعلقة بالمياه، مثل نقص المياه الناتج عن الجفاف.
ومن خلال توظيف الذكاء الاصطناعي، تهدف محطات التحلية لرفع الكفاءة وزيادة الطاقة الإنتاجية، وتعزيز الاستدامة، فيما سيلعب الذكاء الاصطناعي دورًا بالحد من مخاطر الكوارث وتشخيص الأعطال في أنظمة نقل المياه.
وتعد وحدة الذكاء الاصطناعي إحدى الأدوات الرئيسة لتحقيق رؤية محطات التحلية ورسالتها في المملكة والعالم، لذلك كان استخدام تقنيتي الذكاء الاصطناعي والقياس الذكي، متطلبًا أساسيًا لمشروع الناقل الوطني، لتحقيق أسعار معقولة في متناول الحكومة، مما يؤدي إلى الاستدامة، وفق الزعبي.
بُعد مصادر المياه عن التجمعات
بدوره، أكد الأمين العام الأسبق لوزارة المياه إياد الدحيات، أن الاستثمار في تقنيات القياس الذكي، لا يمكن أن يؤتي ثماره ما لم يُبنَ على أساس متين من العوامل المترابطة، تبدأ من البنية التحتية ولا تنتهي عند البيئة التشريعية.
وحدد الدحيات 5 عوامل رئيسة كفيلة بتحقيق هذا التحول النوع، وهي: بنية تحتية رقمية واتصالية قادرة على مواكبة تعقيدات النظام المائي؛ مبينا أن النظام المائي في الأردن يعد من أكثر الأنظمة تعقيدًا، إذ يعتمد على إنتاج ونقل المياه لمسافات طويلة، تتراوح بين 150 و350 كلم، وبمناسيب ضخ تفوق 1000م طولي، نتيجة لبُعد مصادر المياه عن التجمعات السكانية.
ويعمل هذا النظام على مدار 24 ساعة يوميًا، ويعتمد على أدوار التوزيع الأسبوعية لتزويد المواطنين بحصصهم المائية، ما يستدعي وجود أجهزة قياس ذكية وشبكات اتصال حديثة، ترصد كميات المياه في كل مرحلة من مراحل الإنتاج والنقل والتوزيع بدقة، وترسل بياناتها لحظيًا إلى أنظمة مركزية للتحليل، واتخاذ القرار، وفق الدحيات.
تقليل الفاقد والتكاليف التشغيلية
وأكد الأمين العام الأسبق لـ"المياه"، أن هذه التقنيات تمكّن الجهات المختصة من الكشف الفوري عن التسربات أو الاعتداءات على الشبكة، وتُحسّن من فعالية الصيانة، وتقلل الفاقد والتكاليف التشغيلية، كما تعزز من إيرادات المياه المباعة.
وفي السياق الزراعي، أوضح أن إدماج هذه الأنظمة في المناطق المرتفعة ووادي الأردن سيسهم بترشيد مياه الري، عبر مراقبة رطوبة التربة ودرجات الحرارة وتحديد التوقيت الأمثل للري والتسميد، ما يحافظ على إنتاجية المحاصيل ويقلل كميات المياه المستخدمة.
وتشمل تلك العوامل أيضا؛ إدارة وتحليل البيانات ونماذج التنبؤ، إذ شدد الدحيات على أن جمع البيانات لا يكفي من دون تحليل ذكي لها، مؤكدا ضرورة تطوير نماذج تنبؤية وسيناريوهات دقيقة لدعم قرارات التوزيع العادل، خصوصًا في مواسم الجفاف وتدني الهطول المطري، كما هو الحال في الموسم 2024-2025.
"تسهم هذه النماذج بتحديد المحافظات والقطاعات الأكثر تأثرًا، وضبط تشغيل المضخات ومحطات التزويد المائي بكفاءة، فضلًا عن إعداد خطط طارئة تتماشى مع التغيرات المناخية وتحديات الإمداد"، وفق الدحيات.
كما تتضمن العوامل ذاتها، تأهيل الكوادر البشرية وبناء القدرات، مبينا أنه لا قيمة لأي منظومة رقمية من دون كوادر قادرة على إدارتها، معتبرا أن تطوير برامج تعليمية وتدريبية شاملة تستهدف المهندسين، والمشرفين، وصناع القرار، هو أمر محوري لاستدامة أي استثمار تقني.
تطوير حلول قياس ذكي
وتابع "لا بد من تعزيز الشراكة مع مراكز الأبحاث والجامعات، لتطوير حلول قياس ذكي تتوافق مع الخصوصية المائية للأردن، وبناء بيئة معرفية تدعم اتخاذ القرار المبني على البيانات".
وذلك إلى جانب بيئة تنظيمية وتشريعية محفزة، إذ أكد الدحيات في هذا الجانب أهمية وجود أطر قانونية وتنظيمية متكاملة تدعم استخدام تقنيات القياس الذكي في كل مراحل إدارة المياه، من جمع البيانات إلى تحليلها، مع حوافز واضحة لتشجيع القطاع الخاص والمزارعين على تبني هذه التقنيات.
وقال "لا يمكن أن ننجح من دون تشريعات مرنة تشجع الابتكار وتضمن حماية البيانات، إلى جانب تعزيز التعاون الإقليمي وتبادل التجارب في إدارة الموارد المائية"، إضافة لفتح المجال للاستثمار الرقمي المحلي والعالمي.
ودعا الدحيات لفتح المجال أمام الاستثمار من القطاع الخاص لتطوير حلول ذكية، تناسب التحديات المحلية، مشيرا إلى أن بعض التقديرات الدولية تتوقع بأن يتجاوز حجم سوق تقنيات المياه الذكية 10 مليارات دولار أميركي بحلول العام 2030.
وزاد "إن الأردن، باعتباره من الدول الأكثر فقرًا مائيًا عالميًا، بحاجة ماسة لجذب هذه الاستثمارات لتطوير حلول تقنية، تُحدث فرقًا ملموسًا في الأمن المائي الوطني".
رصد أنماط الهدر
من جانبه، حذر المستشار الإقليمي في قطاع المياه م. مفلح العلاوين من مواجهة الأردن أزمة مائية هي من بين الأشد عالميًا، إذ يصنف ضمن الدول الأشد فقرًا بالمياه المتجددة.
وتزداد حدة هذه الأزمة نتيجة مجموعة من العوامل المركبة، أبرزها: النمو السكاني المضطرد، الاستنزاف المستمر للمياه الجوفية، والتأثيرات السلبية لتغير المناخ التي تتجلى بانخفاض معدلات الهطول المطري وزيادة فترات الجفاف، وفق العلاوين.
وبين أنه في ظل هذه التحديات، لم يعد تطوير أدوات الإدارة التقليدية كافيًا، بل بات الاستثمار في تقنيات القياس الذكي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضرورة استراتيجية لتعزيز الأمن المائي في المملكة، وضمان استدامة الموارد المتاحة.
وبخصوص محفزات التحول الذكي في إدارة المياه، بين العلاوين أنها تشمل شح الموارد المائية، اذ يعد الأردن ثاني أفقر دولة عالميًا في حصة الفرد السنوية من المياه، والتي تقل عن 100م3، وهي نسبة تقل كثيرًا عن خط الفقر المائي العالمي والبالغ 1000م3، مشيرا إلى أن هذا الواقع يفرض ضرورة إدارة كل قطرة ماء بكفاءة عالية.
ودعا في هذا الإطار، لأهمية تقنيات القياس الذكي التي تتيح تتبع الاستهلاك بدقة، ورصد أنماط الهدر، وتوجيه الموارد بشكل أكثر فعالية، كما تشمل تأثيرات التغير المناخي، لا سيما وأنها أدت لاضطراب أنماط الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة معدلات التبخر، ما قلل من تجدد مصادر المياه الجوفية.
وبين العلاوين، أن الذكاء الاصطناعي يوفر أدوات متقدمة لنمذجة هذه التغيرات والتنبؤ بها، وبالتالي تحسين إدارة السدود والخزانات، وتعظيم الاستفادة من المياه المتاحة.
وأوصى المستشار الإقليمي في "المياه" بأهمية الحد من الفاقد المائي، محذرا من فقدان شبكات المياه في الأردن كميات كبيرة من المياه بسبب التسربات والاستخدام غير المشروع.
ضمان أمن مائي مستدام
وهنا، لفت لمساهمة العدادات الذكية وأجهزة الاستشعار المرتبطة بإنترنت الأشياء، في الكشف السريع عن التسربات وتحديد مواقعها بدقة، مشيرا لإمكانية الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات لتحديد الأنماط غير الطبيعية، ما يسهم بتقليل الفاقد وتحسين كفاءة الشبكة.
كما خلص العلاوين، لأهمية إدارة الاستهلاك والطلب، إذ توفر العدادات الذكية بيانات لحظية تساعد المستهلكين على فهم سلوكهم الاستهلاكي، واتخاذ قرارات أكثر وعيًا بخصوص ترشيد استخدام المياه.
وذلك إلى جانب أهمية تعزيز الشفافية والمساءلة، لا سيما وأن إحدى أهم مزايا أنظمة القياس الذكي، هي توفير بيانات دقيقة حول استهلاك وتوزيع المياه، ما يعزز الثقة بين الجهات المزودة للخدمة والمواطنين، ويدعم الشفافية والمساءلة في إدارة هذا المورد الحيوي.
وعن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إدارة المياه، قال "إن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة أصبحا أدوات محورية في إدارة الموارد المائية"، مبينا أنه من أبرز استخداماتها: رصد الشبكات والكشف عن التسربات عبر أجهزة الاستشعار المتصلة بالشبكة وتحليل تدفق المياه والضغط في الوقت الحقيقي، وتحسين جداول توزيع المياه استنادًا إلى تحليل البيانات والتنبؤ بالطلب المستقبلي، وإدارة فعالة للسدود والخزانات بناءً على توقعات الطقس وتدفقات المياه.
وذلك إلى جانب الري الذكي في الزراعة، باستخدام بيانات دقيقة حول التربة والمناخ والمحاصيل لتقليل الهدر، ومراقبة جودة المياه عبر أجهزة استشعار ذكية للكشف الفوري عن الملوثات أو التغيرات الكيميائية، وتحليل البيانات الضخمة لتحسين اتخاذ القرار وتطوير سياسات مائية أكثر دقة واستباقية.
ورأى أن تبني هذه التقنيات لم يعد ترفا تقنيا، بل ضرورة ملحة لضمان أمن مائي مستدام في ظل تحديات متصاعدة، مشيرا لأهمية أن يتم بناء التخطيط المائي المستقبلي على أسس رقمية ذكية، تتيح سرعة الاستجابة، وتعزز كفاءة التوزيع، وتقلل الفاقد، وتحمي المورد الأهم لحياة الأجيال المقبلة.